اللعب بجواهر الأشياء.. الحلمُ أنموذجاً
جاسم خلف الياس
بعد تصديره المتضمن مشورةَ أستاذ من جامعة برلين لنيتشه وهو يحضه على توخي نوع آخر من الكتابة، يحدد رعد فاضل مفهوم الغموض في كتابه (دفائن القراءة والكتابة) ليبرّر الغموض الذي رافق لعبه بجواهر الأشياء ((الغموض هو أن يتمتع النصُّ بنوع من مقاومة تتطلب استعداداً جماليّاً ومعرفيّاً من قِبل القراءة، يؤهلها للتجسير والربط الخفيينِ بين علاقاته.. ص2)) ولأننا نقارب هذا اللعب ((بوصفه سحراً ومعرفة ص30)) سنحتاج إلى قراءة جماليّة ومعرفيّة، ((إننا لا نتوفر إلا نادراً على ثقافات نوعيّة من شأنها إعادة فحص الشعر فحصاً نقدياً معرفيّاً- جماليّاً.. ص94)).
ولكن قبل ذلك نتساءل: ما النصّ الغامض المقصود هنا؟ هل هو النصّ الدّفين، نصّ الفيوض والحدوس والتأويل، الغامض والمحتجّب والفاتن والصّعب، القابل لمعدلات الخفاء والتجلّي، المتطلّب فكّاً وفحصاً وتوليداً، المكتوب بحبر سرّي، الخلّاق والغريب والتدميري الذي يخلّف أثراً؟! ومن قارئ هذا النص؟ القارئ الفعّال، النوعيّ، المنقِّب، قصّاص الأثر البارع، المقلِّب ثنايا الأشياء وطيّاتها، المتمتّع بالمرونة العقليّة، المبتكِر، المختلف، الخارج سياقي؟ وهنا تكون القراءة فعلاً انتاجيّاً، فـ ((عندما نقرأ نصّاً ليس علينا أن نفتّش عمّا أراد قوله الكاتب فحسب، وإنّما عمّا نريد نحن أن نقوله كوننا قرّاء منتجين.. ص8))، ويبدو أنّ رعد فاضل قد طرح على نفسه أسئلة القراءة والكتابة بشكل مكثف، وربما أحد تلك الأسئلة: لماذا هذه القراءة؟ وتأتي الإجابة: لأنّ ((القراءة لعب لا بدَّ أن يكون ماهراً كما الكتابة، ولأنَّ دورها يأتي بعد لعب الكتابة عليها أن تكون الأكثر مهارةً في هذا اللعب)) ص9.
(اللعب/ جواهر/ الأشياء) ثلاث مفردات لا يربطها تركيبيّاً سوى حرف الجر بوصفه ضرورة ترابطيّة أدّى وظيفته النحويّة بقوّة (اللعب) بـ (جواهر الأشياء)، بينما أدّى الانزياح وظيفته الدّلالية والجماليّة، وهذا بحدّ ذاته لعب لغويّ لخلق فضاء شعريّ/ فلسفيّ يثير القارئ ويستفزّه من أجل تحقيق الإقناع والإمتاع في الوقت نفسه. ومن يطّلع على كتابات رعد فاضل بعامّة يكتشف أنّ الانزياح من الاشتراطات الفنيّة التي ترتكز عليها جماليّات لعبه الشعريّ الذي يثير المتعة واللذة لدى القارئ، هذا اللعب هو (كيمياء الفعل) الذي تحدّث عنه رامبو، الفعل الذي يزيح المعنى الحقيقيَّ إلى الدّلالة المجازيّة، وهنا نكتشف الفعل الدلاليّ/ الجماليّ الماثل في الانزياح، وبهذا التصوّر فإنَّ (اللعب) هو الكشف عن علاقة الشاعر بـ (الجوهر) سواء (الموجود القائم بذاته) حسب أرسطو (وله مقاربته الخاصة)، أو النّفيس الذي تتخذه النصوص هدفاً وغاية، (وهذا ما تتناوله مقاربتنا هذه) عندها يكون الشاعر هو الجواهريّ الذي (يلعب ويصقل ويقلّب النّظرَ ويقطِّع ويبرد ويثقِّب ويجوس مكتشفاً متأمّلاً ما في الثقوب) أما (الأشياء) بوصفها الموجودات الثابتة المتحقّقة، التي يحقّ لنا أن نتصوّرها أو نخبر عنها، سواء أكانت حسِّية أو معنويّةً فهي الساحة أو الفضاء الذي يتمّ فيه اللعب. وهنا لا بدَّ من أن تنزاح هاتان المفردتان عن معناهما الحقيقيّ إلى دلالتهما المجازية، وهذا ما سنتناوله بعد أن نصوغ سؤالاً جوهريّاً في الكتابة الشعريّة، وهو: كيف يلعب الشاعر بجواهر الأشياء؟ ويأتي الجواب على لسان رعد فاضل نفسه: ((أُخلخِلُ الأشياء حتى يتسنّى لي اكتشاف جواهرها، ثم أعمل على تصميم مواقعها وأدوارها تصميماً تأمّليّاً في هذا اللعب الشعريّ وفقاً لانطباعات ورؤيات شخصيّة إلى حدّ كبير. اللعب بجواهر الأشياء ص5)). ويبدأ لعب رعد فاضل بـ (صناعة حلم) في فضاء أنثويّ/ ذكوريّ لا يشبه الفضاءات العادية، فضاء مؤثّث بالحلم/ البحر/ الشّعر، هل تأخّر رعد فاضل حقاً في الفرار إلى البحر الذي كان بعيداً أكثرَ وساحراً جدّاً؟ البحر هو الشّعر، والشّعر هو البحر، والأحلام هي القصائد، والقصائد هي الأحلام، وحين تتأخر القصائد كثيراً على غير عادتها، لا يكترث رعد لذلك بدلالة قوله: ((حسناً فليصنعْ أحلاماً أخرى فهذه مهنته)).
في نص (محاولات) يحاول الانصراف أكثر إلى أحلام التّنوير والحداثة، وهنا يتحوّل الحلم إلى تطلّعات وتوق ورغبة. وفي نصّ (معاً) يأتي الحلم وقد تحقّق أكثر مما كانا يأملان، والحلم هنا الرؤيا التي تمارس فيها الذّات الشاعرة توسلاتها في أن يكون الالتصاق بحاجة إلى ممارسة التانترا التي هي بحاجة إلى (تفكير، وتلمُّس، وتمرير، وتريّث، وإطالة، واجتهاد، وهناءة، وتأنّ). والحلم هنا لا يمثّل العواطف المتأجّجة التي تُخمد بانتهاء الكتابة أو القراءة وإفراغ شهواتهما، بل هو تقانة يقودها كلٌّ من (الكاتب والقارئ) إلى تعالق الروح بالجسّد النّصيينِ، ولا يحدث هذا إلّا عبر التأنّي الكتابيّ/ القرائيّ كونه الممارسة الوحيدة التي تتكفّل بعدم احراق اللحظات دفعةً واحدة من أجل الوصول إلى اللذّة الكتابيّة/ القرائيّة في لحظة إفراغ الشّحنات بين النصّ والكاتب أو النصّ والقارئ، ولأنَّ لكلِّ منهما رغبةً في ممارسة هذه اللذّة المتبادلة؛ ولأنَّ النصَّ قابل للتلمّس والمحاورة فهو لا يختلف عن الجسد المؤثّث بالحياة، وعليه لا بدَّ من أن يخضع لجدليّات المحبة/ الكراهيّة، الجنون/ العقل، الغواية/ الرشد. وإذا كانت مقولة (تأنَّ، فالعالم لم يصنع في لحظة) تخصّ إدامة الوجود الإنسانيّ عبر الفعل الايروتيكيّ، فإنّنا نستطيع تهجيرها إلى الكتابة والقراءة التي يتمخّض عنها الانكشاف الحقيقيّ بعد أن يتعرّى النصّ وتبرز مفاتنه، وهنا تتحقّق الاستجابةُ النفعيَّة، وتتفعّل الدّلالات الخبيئة، والتأويلات الممكنة، واللذة المتحقّقة في اللحظة الفاصلة بين جسد النصّ المدثّر، وجسد النصّ العاري، ويتحوّل القارئ من منطقة الإيحاء بالتّستُّر إلى منطقة الرائي بفضح المستور، وتحقيق الادهاش، والحراك الإحساسيّ في فضاء حرجٍ بين العُري والاستتار. وهنا نحتاج إلى ((تكثيف المشاركة في التخيّل الخلاق)) حسب باشلار.
في نصّ (أشقّاء أشقياء) يمضي اليانع الغريب مُخلِّفاً ((في رَحِم بستانها ثلاثةُ توائمَ: منقّبُ أفكار/ صانع أحلام ومروِّجُها، والثالثُ قارئ نجومٍ وطوالعَ)) وهنا يلخّص الشاعر سيرته الثقافيّة والمعرفيّة التي تتكرّر في كثير من صياغاته التي تؤكّد على أنّ الشاعر ((خيّاطُ رؤياتٍ لا رتّاق أحلام وآمال وأوهام..80)) ويفعِّل الشاعر مفردة الحلم في نصّ (بكلوريا 76) عندما: ((كانت الكتب سبلاً إلى أحلام عريضةٍ كثيرة))، وعندما كان: ((باعةُ البقصم والسّوس ونقيعِ الزّبيب بالنَّعناع يقطعون الطريق إلى أحلام رزقٍ يوميةٍ)) إلّا أنّ هذه الأحلام ((لا تكاد تُذكر في سجل خازن الأحلام/ مع هذا غضَّ عنها الطّرْف كثيراً ساعي بريد الأمل والأيّام.. ص111)) فيشخصنها (يؤنسنها) الشاعر، ويسمح لها بتقليب دفاترها القديمة، لعلّها تعثر على بعض المفقودات، أو يجسّدها وهو يرمّم أحلامه الموغلة في القِدَم، أو تبقى هذه الأحلام تُنقِّر في رأسه مثلما يتوهّم نورسة تنقر الليلة عليه الباب، فيظلّ أفلاطونياً لا أكثر، فالـ ((الحالمون/ مكذوب عليهم دائماً/ ودائما يفرّون في فراش الوهم الوثير/ ما إن تُماط عن أحلامهم الخلّابة لثاماتُ الأمل/ هذا ما يُصرّح به دائماً به الندم. ص129)) والشاعر رعد فاضل من هؤلاء
الحالمين.
أتلف حياته في صيد الأحلام والأفكار والأوهام، ولكنّه ليس صيداً عاديّاً، فـ (بثقبٍ ما يكاد يُرى ولا يُرى/ وبعد أن يُثبِّتَ الشّاعر في الثّقب العجيب النّظرَ/ يبدأ اللعب مع السّحر والدَّهَش والأعاجيب.. ص142)) وهؤلاء هم الشعراء المختلفون، المنقِّبون الذين ((يخلِّفون تلالاً من تراب الأحلام والآمال والأعمار والذكريات/ ولم يكلّوا/ حتى اليوم يواصلون التّنقيبَ/ ولمّا يصلوا بعدُ... 180)).
((لا يزال العتّال يُسلِم ظهره المقوَّسَ للأكياس)) بهذه العبارة المُحمَّلة بقسوة الأحلام التي ظلّت رهينة الفخاخ المهيّأة لاصطياد السعادة، والخواطر والخلجات التي نبشت الماضي والحاضر، يختتم رعـد فاضل نصيّاته الشعريّة الباذخة الاشتغال.