صالح رحيم
أحن إلى الطفل الذي شاخ في بطن أمه و مات ونجى بأعجوبة، ذلك الأول في توريطي، والأخير في التخلي عني، أحن إليه، ذلك الطفل المنهمك بألعابه الطينية، أريد لقاءه مرة أخرى قرب باب أو نافذة، أو شجرة، بي شوق يحرق روحي إليه، أريد أن أراه كما هو بالحزن والتراب الذي يغطي جسده طوال اليوم كما تركته آخر مرة..
**
أحن إلى الولد الذي يستيقظ مبكرا من أجل دراسته، فيضربه المدير في صباح بارد بالعصا على يديه لأنه لم يجلب الخمسمئة دينار أجرةً للمعلمات، ذلك الولد الذي شتم المدير وترك المدرسة غاضبا، الولد الذي تحبه المعلمة لنباهته ولشدة حبها كتبت: له أحسنت يا حمار، أحن إليه ذلك الحمار الذي ضاع في الوديان..
**
أحن إلى الفتى الذي كان يتمنى أن يصير شيخا على عشيرته، الفتى الذي كان يرتدي العقال لنقص في عقله وبدنه، أحن إليه ذلك الفتى الذي يشعر بالعار الآن من ماضيه، لقد صار وحيدا هذه الأيام، يقبع في روحه بركان، ونضجت في قلبه الأمراض، أحن اليه الآن ذلك الفتى الشقي العابر!.
**
أحن إلى الرجل الذي بلغ الأربعين من عمره، وصار يعاني التزامَه بالمعيشة، ومن توفير لقمة العيش، الرجل الذي ينام من أجل أن يستيقظ صباحا لا من أجل أن ينام، أريد أن أعانقه بقوة وأقول له: لا تكترث، المهم أنني أحن إليك..
**
أحن إلى الشيخ الذي يحتضر الآن، ويوصي أبناءه بحسن السلوك والأخلاق، وبالاهتمام بالسمعة والاسم، الشيخ الذي مات، كم تمنيت لو أنني أحد من شيعوه إلى قبره، آه.. إنني إحن إلى قبره!
**
أحن إلى نبتة القطن التي زرعتها في باب المطبخ، تلك النبتة البطلة في تحمل الأسى والضيم، أحن إلى اليوم الذي فيه قطعناها، وإلى اليوم الذي زرعته أكثر، فإنني على الأقل سأزرعها في الحديقة..
**
أحن إلى حمامة جائعة، حمامة تعودت على الخبز المعجون بلعابي، وعلى صفير فمي، أحن اليها تلك الحمامة الخائفة التي غرزت في رأسها الأمان وتركت في قلبي الحنان إليها، أحن إليها تلك الحمامة التي ماتت جائعة!.
**
أحن إلى ربٍّ كان يلاطفني بسر وكتمان، ربي الذي كان يسير واضعا يده على رأسي، يده المتوهجة على الدوام، أحن إلى ذلك الرب النبيل، الذي كثيراً ما أرقني الوله بالعثور عليه في خرائب الروح، ربي الذي انطفأ مثل شمعة في ظلمة الجسد، أحن اليه كثيراً ذلك الرب البعيد..
**
أحن إلى آلامي الأولى، إلى الوحش الذي كان يئن في مفاصلي، إلى ألمٍ كان يرعى الدمع في عيني، والحسرة في صدري، أحن إلى طبيبي الذي كنا ننعته بالبقرة، البقرة التي كانت تدر على جسدي حليب السقم، أحن إليها تلك البقرة الحلوب..