د. طلال ناظم الزهيري
منذُ ستينياتِ القرنِ الماضي، صممت الجامعاتُ العراقيةُ في المقامِ الأولِ برامجها التعليميةُ بهدفِ إعدادِ المهنيينَ في مختلفِ المجالاتِ للعملِ في القطاعاتِ الحكوميةِ. خلالَ تلك الحقبةِ، كانَ منْ غيرِ المألوفِ نسبيا لخريجي الجامعاتِ العراقيةِ أنْ يغامروا في مجالاتٍ مهنيةٍ خارجَ القطاعاتِ ذاتِ الصلةِ بالحكومةِ. إذْ غالبا ما كانتْ مساحةُ الحريةِ في اختيارِ التخصصاتِ الدراسيةِ تتأثرُ بالتداخلاتِ المعقدةِ للعواملِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ، التي كانتْ متجذرةً في الثقافةِ العراقيةِ، كانَ هناكَ ميلٌ واضحٌ لبعضِ التخصصاتِ الأكاديميةِ على الأخرى. ومنْ الأمثلةِ البارزةِ على ذلكَ ميلُ الوالدينِ السائدِ لتوجيهِ أطفالهمْ نحوَ وظائفَ مثلٍ الطبِ والهندسةِ والقانونِ- المهنُ التي تحظى بالتفضيلِ على نطاقٍ واسعٍ لفوائدها المستقبليةِ المتوقعةِ وقدْ يستمرُ هذا الطموحِ العائليِ، حتى تظهرَ نتائجُ الدراسةِ الإعداديةِ للطلابِ. وبالنظرِ إلى أنَ المشهدَ التعليميَ في تلكَ الفترةِ كانَ ضمنَ السيطرةِ الحكوميةِ، الأمرُ الذي جعلَ تفضيلاتِ الطلابِ وخياراتهمْ مقيدةٌ بشكلٍ ملحوظٍ بالمعدلاتِ التي حصلوا عليها. ومنْ خلالِ الفحصِ الدقيقِ للأسبابِ الكامنةِ وراءَ ميلِ العائلاتِ العراقيةِ لهذهِ المهنِ عنْ غيرها ظهرِ لنا وجودُ قاسمٍ مشتركٍ (احتمالُ دخلٍ إضافيٍ يتجاوزُ الراتبُ الحكوميُ للأفرادِ المتخصصينَ في هذهِ المجالاتِ). على عكسِ التخصصاتِ الأخرى التي تفتقرُ إلى أسواقِ عملٍ قابلةٍ للممارسةِ خارجَ حدودِ القطاعاتِ الحكوميةِ. خلالَ عقدِ الثمانينياتِ، شهدَ العراقُ إنشاءَ الكلياتِ الأهليةِ بالتزامنِ معَ إدخالِ برامجِ الدراسةِ المسائيةِ في الجامعاتِ الحكوميةِ. وعلى الرغمِ منْ نبلِ الدوافعِ الكامنةِ وراءَ هذهِ التطوراتِ، إلا أنها لمْ تتماشَ بشكلٍ منهجيٍ معَ المتطلباتِ المتطورةِ لسوقِ العملِ. إذْ غالبا ما تميلُ الكلياتُ الأهليةُ إلى إدخالِ تخصصاتِ أكاديميةِ بناءٍ على المزاجِ المجتمعيِ السائدِ. حتى تمَ التركيزُ بشكلٍ غيرِ متناسبٍ على فروعٍ مختلفةٍ منْ الأقسامِ ذاتِ الصلةِ بالحاسوبِ، وغالبا ما يتمُ إلحاقها ب كلمةَ «الهندسةِ» للتوافقِ معَ الميولِ المجتمعيةِ، إلى جانبِ التركيزِ الملحوظِ على دراساتِ القانونِ. لقدْ استمرَ هذا الاتجاهِ حتى يومنا هذا، معَ وجودِ تحولاتٍ في تفضيلاتِ التخصصاتِ الدراسيةِ. وتجدرَ الإشارةُ إلى أنَ الاحتماليةَ المحدودةَ لتأمينِ التوظيفِ الحكوميِ في المجالاتِ العلميةِ والإنسانيةِ دفعتِ العائلاتُ إلى التفكيرِ في مساراتٍ بديلةٍ تخضعُ لمعاييرِ التعييناتِ المركزيةِ، مثل المهنِ الطبيةِ، أو تلكَ التي تفضي إلى ممارسةٍ غيرِ حكوميةٍ، كما هوَ واضحٌ في حالةِ دراسةِ القانونِ. أدى استمرارُ هذا النموذجِ حتى يومنا هذا إلى ترهلٍ ملحوظٍ في هذهِ التخصصاتِ، مما تسببَ في فقدانِ بعضِ مزاياها السابقةِ. جاءَ انخفاضُ الاهتمامِ بعلومِ الحاسوبِ وبرامجِ القانونِ في أعقابِ الزيادةِ الهائلةِ في عددِ الخريجينَ بهذهِ التخصصاتِ. في المقابلِ، تجددُ التركيزِ على المجالاتِ الأكاديميةِ مثلٍ طبِ الأسنانِ والصيدلةِ، حيثُ سمحت الحكومةُ باستحداثِ دراستها داخلَ الكلياتِ الأهليةِ بعدَ أنْ كانتْ منْ اختصاصِ الجامعاتِ الحكوميةِ فقطْ. قدْ تشهدُ السنواتُ اللاحقةُ أنَ هذهِ المجالاتِ المفضلةِ تواجهُ مصيرا مشابها لمصيرِ علومِ الحاسوبِ والقانونِ. منْ المحتملِ أنْ يضعَ هذا المسارِ الحكومةِ في موقفٍ محفوفٍ بالمخاطرِ، معَ ارتفاعِ بطالةٍ الخريجينَ والافتقارُ إلى الحلولِ النهائيةِ لمعالجةِ هذهِ المشكلةِ. نعتقدُ أنهُ آنَ الأوانُ لتدخلِ وزارةِ التعليمِ العالي في وضعِ ضوابطَ ومعاييرَ لاستحداثِ التخصصاتِ العلمية في الكلياتِ الأهليةِ وبما يتلاءمُ معَ حاجاتِ سوقِ العملِ. فضلاً عنْ أهميةِ التحكمِ بمعاييرِ جودةٍ صارمةٍ تدفعُ الكلياتُ الأهليةُ إلى التنافسِ على أساسِ الرصانةِ والسمعةِ الأكاديميةِ، بدلاً منْ أنْ تكونَ قناة عبورِ للباحثينَ عنْ العناوينِ والشهاداتِ الجامعيةِ دونَ المهارةِ.