المغيًّبون قسراً

آراء 2023/08/21
...

  زهير كاظم عبود

الغائب يعني انه ليس حاضرا أو غير موجود لسبب أو من دون سبب، وانقطعت أخباره بحيث لا نعلم عنه إن كان حيا أو ميتا، وعالجت القوانين العراقية المدنية حالات الفقدان في القانون المدني أو في قانون الأحوال الشخصية، ولعل فترة الحرب التي تورط بها الطاغية ضد الجارة إيران، كانت من بين اكثر الفترات التي ظهرت بها حالة الفقدان، وحالة الفقدان مؤثرة وعميقة الألم ضمن المشاعر الإنسانية.

حيث يبقى الأمل منعقدا على حالة عودة المفقود، أو ظهوره حيا بعد فترة، أو التشبث بورود أية بارقة أمل لأهله يتعلقون بها، غير أن الحزن والكمد اللذين تتحمله عائلة المفقود واقرب الناس اليه يبقيان كبيرين ويفطران القلب.
وأنا أتصفح جريدة "الصباح" يوميا أمر مرورا يلزمني بالتوقيف حول موقف إنساني يلفت النظر يتجسد بإصرار هيئة التحرير أن تبقي اسم الصحفي توفيق التميمي مسؤولا عن صحف المحافظات، وكلنا نعلم اختفاء وتغييب الصحفي توفيق التميمي منذ التاسع من شهر آذار 2020 وحتى اليوم، لكنه الوفاء والموقف الإنساني اللذان يلزمان الجريدة على إبقاء هذا الاسم الجليل والمدافع الأمين عن حقوق
الإنسان.
الممارسات التي تمَّ فضحها والتعرف عليها في قيام أجهزة الامن الصدامي باختطاف أشخاص عراقيين من بيوتهم أو من الشوارع، ومن ثم تغييبهم نتيجة اللجوء إلى استعمال أساليب القسوة والقوة المفرطة في التعذيب الجسدي ضدهم لأسباب سياسية، ولعدم قدرة المختطفين على تحمل أساليب التعذيب فتنتهي حياتهم تحت تلك الممارسات الاجرامية، فتلجا تلك الأجهزة إلى إخفاء جرائمها وانكار وجود أو اعتقال تلك الأسماء، ودفنهم سرا في مقابر مجهولة، وبقيت تلك الأسماء المختطفة والمغيبة مجهولة المصير حتى سقط صدام ونظامه وتكشفت الحقائق، وعرف بعض الناس مكان قبور أولادهم، أو اطلعوا على قرارات الحكم بإعدامهم التي تصدرها محكمة الثورة سيئة الصيت.
هذا التغييب القسري مورس في ظل أجهزة أمنية واستخبارية تحميها الحكومة، ولخدمة الحكومة اسكاتا للصوت المعارض لها، وتمت ادانة تلك الأساليب وتلك الأجهزة، ولم تتم ملاحقة أو مساءلة أو محاكمة من مارس التعذيب واستخدم تلك الأساليب في تلك الأجهزة الأمنية لانشغالنا بقضايا أخرى، وبقيت صفحة تغييب المواطن في تلك الفترة علامة فارقة وأسلوبا بعيدا عن الإنسانية، وممارسات مدانة لا ترقى لمستوى أساليب السلطات التي تحترم نفسها ومواطنيها ودستورها وقوانينها.
واعتمدت الأمم المتحدة اتفاقية حماية الأشخاص من الاختفاء القسري بالنظر لما تشكله ظاهرة الاختفاء القسري من مشكلة خطيرة تهدد المجتمع الإنساني، ولعل تلك المعاهدة من بين أهم المعاهدات التي تعني بحقوق الانسان، وتدعو إلى كشف تفاصيل تلك العمليات والوصول إلى العدالة في مصير تلك الاعداد، والحرص على التوصل اليهم ومساعدة أسرهم وإيقاف معاناتهم بالنظر لما يتركه فقدانه أو اختفاؤه من اثر سلبي في العائلة، والعراق من بين الدول التي وقعت على المعاهدة المذكورة والتزمت بها.
بعد التغيير في العام 2003 تم كنس صفحة مريرة من حياة العراقيين، وكلنا أمل في أن نخط صفحة جديدة تسودها القيم والتفاهم والمحبة، وأن يكون الاختلاف في العقائد والأفكار والالتزامات طريقا للوصول إلى بلد يضم الجميع ويحترم القانون، وجميع الطرق المختلفة تؤدي إلى طريق مستقبل الديمقراطية، وأن نسعى بقدر الإمكان إلى تحويل الاختلاف إلى حوار، بدلا من اللجوء إلى أساليب وممارسات كنا قد نبذناها ونستنكر اللجوء اليها، إلا أن حالات التغييب التي تركت حزنا كبيرا وعودة إلى أساليب تلك الأجهزة الأمنية تركت اثرا بليغا وقلقا في نظرتنا للمستقبل.
وحين يتم اختطاف الصحفي توفيق التميمي في وضح النهار وأمام بيته، وغيره من الأشخاص الذين جرى اختطافهم وتغييبهم أمثال جلال الشحماني ومازن لطيف وفرج البدري، ولعل الأسماء الأخرى في بقية المحافظات تدل على خطورة الأفعال المرتكبة، والتي للأسف لم تكن هناك جدية لكشف الحقيقة والتوصل إلى الجناة ومعاقبتهم والتوصل إلى مصير المغيبين قسرا.
ملف المغيبين سيبقى مفتوحا حتى تتم إعادة فتحه مجددا، وانه لن يغلق نهائيا لبقاء الفعل والفاعل والضحايا على الساحة، حتى يتم إجراء التحقيق من قبل سلطات مقتدرة ومختصة، وألا تأخذها بالحق لومة لائم، فالخاطف ومن غيب مواطن مرتكبا لفعل اجرامي يعاقب عليه القانون مهما كانت درجته أو منزلته أو أفكاره، وأن يتم جمع الأدلة والقرائن عن الأسباب والنتائج ومصير المغيبين، وأن تولي الحكومة الاهتمام بالملف ومساعدة أهالي الضحايا والمتضررين من فقدان أحبتهم، سواء ماديا أو معنويا، وأن تسعى السلطة التنفيذية على منع وتحجيم مثل هذه الحالات مستقبلا.