ياسين طه حافظ
سلفاً، أنا لا أتحدث في مسالة فقهية. أنا أستفيد من مفردة صارت عنواناً لمسألة في الفقه وهي الاجتهاد. نعلم مما ألفنا ومما قرأنا، إن في المساجد، في المدارس القديمة، في بيوت العلم، شيوخا وعلماء في هذا الموضوع وذاك، لا سيما علوم العربية والدين والفلسفة والمنطق أو الافكار. وإننا نعرف أن فلاناً تتلمذ على يد فلان أو أخذ عنه أو سمع منه.
لكي نكون أكثر دقة، لم يكونوا يلقّنونهم قواعد وأصولاً ومضامين حسب.
بل كما هم يُعلِّمون، كانوا يوصلون أشعتهم الفكرية الخاصة ورؤاهم ونظرياتهم هم وآراءهم من خلال الدرس والمحاضرة والمجالسة والحديث. فحديث هذا في المسألة غير حديث ذاك، وإن تشابهت المفردات والفحوى.
لكن نشأة المعاهد والجامعات حددت كتباً ومناهج ومواد. والاستاذ يلتزم بحدودها ويؤدي – ما قد طُلِبَ منه أن يؤديه. ماضرر هذا وما نفعه؟ نفعه أنه الزم مأجوريهم باداء ما طُلِبَ منهم.
وانهم لا يعملون في فضاء مفتوح، ولكنهم يتقاضون أجوراً أو رواتب لقاء ما يُراد منهم إن يوصلوه لتلامذتهم أو الدارسين.
فلا شطط ولا خروج عما هو خارج المنهج المطلوب أو خارج ما يريده عقل الدولة «التربوي».
وضرره أننا خسرنا الجوهر الخاص المشع داخل العالِم او المعلم من بعد أو الاستاذ. فليس بعد ما يتفرد به المتعلم من علم أو تفسير أو رأي أو طريقة تفكير.
الفكر الأوروبي ما توقف عند حدود مهنة التعليم عند اساتذة الجامعات. فلكل فيلسوف أثره ورؤيته وأفكاره في المسالة التي يتم درسها.
هذا من تتلمذ على يد برتراندرسل، وذاك على هايدجر وآخر على سوى هذين. ما كان في مساجدنا وبيوتنا ودواويننا، موجود مماثلُه في أوروبا الحديثة مع فارق حضاري مدني.
حسنة هذا الأمر أن المتخرجين أو الخريجين، لم يخرجوا متشابهين في النظرة والتفكير والفهم. لهم طرائق تفكيرهم ورؤاهم، التي سيطورونها- هذا يعني أن أسباب التقدم والتطور تمت المحافظة عليها ورعايتها، وغالبا ما يصل طلابهم الى نظريات ورؤى تخالف في مناحيها ما كان لاساتذتهم. عندنا الاستاذ ضمن حدوده وهو افتقاد الحرية. هو ضمن ما يراد منه بحدود المنهج والدرس – له الإطار العام، ولا حرية لكل الخاص من ذلك “العام” المقرر.
فالمنهج وضعت مفرداته وحددوه لنتعلم مبادئ العلوم والادب. وهذا أمر لا شكوى منه. لكن الثاني الذي نخشاه لا على الدرس ومن يدرسه، ولكن على افتقاد الفكر لفضاءاته وعلى منع الاختراقات، وعلى خسارة ما هو خارج المقنن او الممنوع. الأبعد خطراً، والأهم بالنسبة لي وأنا أكتب، هو أن نسقط في المتشابهِ. تصوروا بشراً ببزة واحدة كالجنود وعمال المؤسسات والمطارات وما إلى ذلك.
هذا تشابه في المظهر ونحن نعرف أن وراءها ناسا مختلفين، أخلاقاً، أمزجة، عواطف. لكن هنا الامر مختلف في العلم والتعلم، وحين يكون التشابه في المعرفة المحددة والأفكار!
إنها الكارثة اذا تشابه الداخل في الناس وظل المظهر واحداً. أي إنسانية بائسة ستكون، وأي حياة مملة وضحلة ولا معنى لها وبلا نور أو اشعة إنسانية. هنا منطلق إلى ما يوجب الوقوف ضده، ضد أن نصل الى مثل هذه النتيجة. تجسّدَ هنا واضحاً خطر انعدام حرية التفكيبر! بانعدام حرية التفكير ستتوالى المتشابهات، ومثل الصدأ على الاشكال اللامعة، وتنطفئ الحيوية الانسانية، وبدلاً من التقدم الفكري والتقدم الإنساني الحيوي، ستقترب بلادةُ الفكر وخموله ضمن قوالبه ومسموحاته. بعد عقود، أو قل قرون، سنُفجَع بتلف جوهر البشرية الذي كان يسطع. فلتتسع من الآن فضاءات الفكر ولتلتمع افكارهُ الجديدة الكامنة.
لا ننسى خطورة ما هو ضد ذلك، فهذه القضية أدت الى فجائع في التاريخ القديم والحديث. لقد حكم على سقراط بالموت وقيل إن افلاطون ألقي في غياهب السجن وعديد قتلوا شر قتله من العلماء أو المجتهدين أو الرؤيويين المسلمين.
لا ننسى أن غاليلو أُجبر على نكران ما قاله! نعم إن تعليم الدولة المقرر ضروري في جانب على ألا يكون مطلقاً يمتع التفكير، ويصد الرأي الجديد المنبثق من ذكاء خاص أو رؤية فريدة.
أهمية الفكر الفردي الخاص أهمية بالغة ومحترمة أُدركت في عصور تبدو مختلفة بالنسبة لعصرنا. هل نستطيع إغفال رؤى وكشوفات العلماء والمفكرين المسلمين؟ وإدراكاً لأهمية الحرية للإبداع، كان باباوات عصر النهضة يمنحون الرسامين كامل الحرية، فكانت المعالم العظيمة واللوحات والجداريات
الباهرة.
أمام واقع يسمح ولا يسمح، يحدد العمل بأجور ويفرض علينا الالتزام وعدم تجاوز الحدود المعرفية التي اقرّها.
أمام هذا لا نستطيع دائماً أن نكون ثواراً او متمردين. يمكن أن نكون تدريسيين، نبث الروح الإنساني ونشير الى ما قد يكشف عنه النص ومع الشرح والتفسير تشع الثقافة المختزَنة والنضج المعرفي.وهما غالباً ما يميزان مدرساً عن مدرس وأستاذاً عن أستاذ. لا أحد ممن درسوا وتخرجوا لا يذكر “امتياز” أستاذ من أساتذته أو معلم من معلميه. لقد كان لذلك المتميز اجتهاد “ضمني” وما توقف عنده الاجتهاد. وأنا طالب في الأول المتوسط كنت اكتب انشاء جيداً انتبه إليه مدرس العربية. يوماً دعاني.
ونحن في ساحة ثانوية بعقوبة (التي صارت اعدادية بعقوبة)، قال لي: أنت ستكون أديباً. ولكي تكون أديباً محترماً وذا قيمة، يجب أن تعلم إن هناك كتّاباً وشعراء ومفكرين تجمعهم جبهة الإنسانية ويكتبون من أجل الإنسان في الأرض. كن واحداً منهم لتحس أنك لست وحدك، بل لك أصدقاء من أدباء العالم وكتّابه.
وإلا فستضيع امكاناتك في موضوعات لا قيمة لها. أمامك الإنسانية الكبيرة فكن مع كتابها عدا ذلك ستنهي وحيداً وتموت في وحشة باردة!.
هكذا تحولت من إنسان عادي إلى آخر.. رحمك الله يا معلمي، يا استاذي واخي ملا شكور مصطفى، أدرت وجهي للحياة العظيمة!