طالب عبد العزيز
في وعي كلِّ انسانٍ أشياءُ لم تخلق بعد، أو شيءٌ ما مفقود لن يعثر عليه، لأنَّ الفقد هو الاصل.
وربما كان العدمُ هو البداية الواقعية لكل ما هو موجود، ولعله كان “ الخلود الذي يومض في الزمن” بتعبير هيدجر.
لذا، هناك امرأة خالدةٌ، وإنْ لم نلتق بها، لكنها ستظلُّ تومض في الزمن، لا تتحقق في البحث ولا تتضررُ بالفقد، هي الفضاء الغامض، الذي لولاه، لانتهت قصص الحب.
بتصريحٍ أو بتلميح حتى، يسوؤني القول بأنَّ المرأةَ التي تعلقتُ بها عبر أزمنتي، أو التي كادت قبل ثلاثين سنة، لم تعرْ تعلقي ذاك اهتماماً بالغاً، لا لأنها لم تتحقق في الاخيلة العميقة بعد، إنما لأنَّها مازالت ترزح تحت قيدها الميثولوجي الأول، مسوّرةً بحدود الحبِّ الجبانة، أو الاعجاب البليد.
أمس، وأنا أعيدُ ترتيب الاشياء، عثرتُ على قلم الحبر القديم، الذي أهدتنيه ودفتر رسم قديم، وسكين فتح الرسائل، وعلبة خزفيات أنيقة، مع فتّاحة زجاجات النبيذ، ومحرار قياس نسبة الكحول وسوى ذلك كثير، توهمتها واقفةً، تستل الكتاب هذا، وتعيد ذاك، ترمم عيني بنظرة عطوف، وتبحث في أرفف العمر الكثيرة عن ماكنة قرض الايام، أو تأخذ عنّي كتاب الندم، أدمت الحروفُ صفحاته، فأصيح بها: تعالي، بالله عليك، تعقّبي أخطائي، قولي إنك متهورٌ وكذّابٌ وأنانيٌّ، أحبّك تحصين عثراتي، فأنا رجل لا يُسعدُ بذكر محاسنه.
عن المرأة تلكَ كتبتُ قصائد كثيرة، لأنني أرى أنِّ الكتابة عن المرأة واحدة من مهام الشعر، والوجود الانساني بحاجة الى من يحتفل به، وليجعله ممكناً، وأسعى قائلاً :على الكتّاب والشعراء والفنانين الذين لا نساء في قصائدهم أنْ يدخلوا عيادات أطبائهم النفسيين، مثلما على النساء اللواتي لم يقعن على قصيدتهن ولوحتهن بعد، أنْ يفعلن ذلك أيضاً.
يكتب هيدجر الى حنة آرندت:” يجدر بنا أنْ نعيد الجمال الى نور الحقيقة، الجمال الذي لا يجدُ له مكانا إلا في قصائد الشعراء”.
الجمال وحده ينقذ العالم، لكنني أحترس مثل هيدجر، لكي لا تكون الكلماتُ كلاماً.
أجرؤ أحيانا، فأكتب اشياءَ تفتقر الى التخييل، لأنني عشتُ حياتي بالمقلوب، هناك حلمٌ قديمٌ ظلَّ يعصفني مع الآمال الكثيرة، التي تعطلت كلّما أعدتُ مشاهدة فيلم(Phantom Thread) لدانيال دي ليويس.
مع العبقري هذا ألهج بالقول: ماذا يعني أن يكون الانسانُ مسكوناً بمشاعر مضاعفة، وكيف به إذا جاء بقدرة فائقة على ترويع قلبه عشقاً، وماذا يعني انعدام من يفهمنا، بالذي نحن عليه، ثم لا يتجنب تأثيره السلبي على حياتنا.
ظلت ليزلي مانفيل، الفتاة (الموديل) التي اكتشفها في محطة البنزين، وجاء بها الى البيت منغصةً لحياته، بالقدر الذي أحبَّها فيه، ولم يكشف عن حبّه، وتعلقه بها، بالقدر الذي لم تكاشفه فيه عن حبّها، وتعلّقها به، إلا حين مرض، وغاب عن وعيه، لتظلَّ ليزلي ساهرة عليه، هو الذي أفاق واستعاد وعيه وتنبه متأخراً لذلك الحب، لحظة لم يجد أمامه إلا أنْ يركع عند أجمل قدمين، وهي ممددة، مسهّدة على الاريكة، وليتأمل أخلد جسدٍ جُمعَ في ساتان وأزرار، وأذلّهُ السهر والوجدُ معاً، فاستسلمَ خائفاً، في مشهد هو الاسمى. كنتُ وحدي حين صرختُ: إنَّه لا يكذبْ، إنه يموت.
إلى جوار ذلك، أجدني محشوراً في أشياء تافهة جداً، فانا أغادر مكتبي الى المطبخ كلما استعصى عليَّ أمرٌ في الكتابة، أو ضجِرتُ، هكذا أفعل، مثل كلِّ اليائسين، الذين يرون في الكتابة تعويضاً عن فشلهم في الحياة، ومثل دويبة عجوز تأخذني قدماي الى المطبخ، أعيد ترتيب الاواني المبعثرة، التي أهملها الاولاد في سهرهم، فأعترض مع نفسي على وضع هذه وتلك في غير محلها، وحين أخلص من إعداد ما أريده طعاماً، أجعل ابريق الشاي على يدي اليمين، وقدحَ الماء على يدي الشمال، أبعدُ قليلا سلة الخبز، أو أقرّبها، يقلقني هارموني الطاولة، أنا أرى أنَّ هناك خللاً في نصاب الاشياء، فأنا، لا أحبُّ الحليب البودر مثلاً، لذا، أتعجّل الخطى الى محل البقالة، اشتري الحليب السائل، الوحيد الذي يذكّرني بحليب بقرتنا، قبل نصف قرن، ساعة تجيئني أمّي به ساخنا من تحتها.
أجدني في التناسق البليد والمزعوم هذا، الذي لم يتحقق يوماً، فأنا في كل يوم أعيد هيكلة الاشياء حولي، وهي تمعن في فوضاها وخرابها، حتى خلصتُ إلى أنَّ الحلم(المثال) لا سبيل له، وهناك دائماً ما لا يتحقق ويكمل، لأنَّ الحياة تقوم بنقصانها أو زوالها أحياناً، وأنَّ تناسق الاشياء على طاولتي هذه لن يتم، وفنجان القهوة، برائحته التي أعشق لن يُفلح في تسوية المشهد، وباقة الورد التي جئت بها من الحديقة ستجد مكانها الخطأ، مثل أيِّ فعل ولد ليكون عيباً وتشويهاً. إذا كان الشقاء والخيبة في رحلة البحث عن المرأة (الحلم) عناية الروح، ذات يوم فأن الشقاء الحقَّ هو في أنني لم افلح في ترتيب الاواني على الطاولة، وفي فوضى ما اِتسق زوراً من حولي اليوم. هذه الحياة تشبه(الرَّستا)أتعلمون ما هي؟
هي ضفائر الشعر على الطريقة الجامايكية.