ابتكار الأنثروبولوجيا

آراء 2023/08/22
...






 د. يحيى حسين زامل


 تعد «ابتكار الأنثروبولوجيا» من أهم الانجازات العلمية في القرن التاسع عشر، إذ تأسست نتيجة تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية وذلك بهدف دراسة البشرية وتحليل ثقافاتها وتطورها.  ويمكن تتبع تاريخ الأنثروبولوجيا من بدايات القرن التاسع عشر، حين بدأ العلماء في الاهتمام بدراسة العادات والتقاليد والثقافات المختلفة حول العالم. ومن أبرز هؤلاء العلماء لويس هنري مورغان (Lewis H. Morgan)‏ (1818 – 1881 م)، وهو أنثروبولوجي أمريكي ومنظر اجتماعي رائد، يشتهر بعمله على القرابة والبنية الاجتماعية، ونظرياته عن التطور الاجتماعي، وإثنوغرافيا شعب الإيراكوي. و”يوهان ياكوب باخوفن (1815 - 1887) (Johann Jakob Bachofen) وهو أنثروبولوجي ومؤرخ سويسري للقانون والدين. ويعد كتابه «حق الأمومة» (1861) عملاً رائداً في دراسة تاريخ الأسرة وخاصة الأسرة الأمومية. و”جيمس جورج فريزر” (James George Frazer)‏ (1854 - 1941 م). أنثروبولوجي اسكتلندي كبير، صاحب المؤلف المشهور “الغصن الذهبي” (The Golden Bough)، وهو دراسة في السحر والدين (1890). فسر فيه الكثير من الأساطير والشعائر الدينية التي يرجع أصلها إلى أيام الزراعة في عصر ما قبل التاريخ. وحدد تطور المجتمع بثلاث مراحل: السحر، والدين، والعلم.  وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت الأنثروبولوجيا تنتشر في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، وتوسعت في دراسة الحضارات والثقافات المختلفة حول العالم. وقد كان من أهم المؤسسين للأنثروبولوجيا الحديثة “فرانز بواس”، الذي درس ثقافات الأمم الأصلية في جزر المحيط الهادئ، و”برونيسلاو مالينوفسكي” الذي درس الثقافة في مجتمع “التروبرياند”. و”راد كليف براون” في تنظيراته الاجتماعية والحقلية في مجتمع “الأندمان”، وغيرهم كثير من المدارس والاتجاهات الالمانية والفرنسية المعاصرة. 

 وتتميز الأنثروبولوجيا بأنها تتطلع إلى فهم الثقافات بأسلوب عام وشامل، وتسعى إلى فهم العلاقات بين الناس والثقافات المختلفة، وبين الثقافات والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتستند الأنثروبولوجيا على الدراسات الحقلية، إذ يتم البحث والتحليل من خلال المشاركة المباشرة في الحياة اليومية للمجتمعات والثقافات المختلفة.

 وتشمل مجالات الأنثروبولوجيا العديد من المواضيع، بما في ذلك الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الطبية والأنثروبولوجيا القانونية وغيرها، ومن أهم اسهامات الأنثروبولوجيا في العلوم الاجتماعية والإنسانية هو الإسهام في فهم الثقافات المختلفة، وتحليل تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على تطورها، كما تساعد الأنثروبولوجيا في تحليل العلاقات بين المجتمعات والدول والأمم، وتعزز الفهم والتسامح والتعايش المشترك بين الثقافات المختلفة.  وتُستعمل الأنثروبولوجيا المعاصرة في العديد من المجالات، بما في ذلك التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والعمل الإنساني والتعاون الدولي، وحتى في مجالات الأعمال والتسويق والإعلام، فضلاً عن ذلك، تعد الأنثروبولوجيا أيضاً من العلوم الحيوية، إذ تساعد في فهم السلوك البشري وعلاقته بالوراثة والبيئة، وتساعد في دراسة التطور البشري والتنوع الوراثي والثقافي.  وتستمر الأنثروبولوجيا في الوقت الحالي في تطورها وتوسيع نطاقها، إذ تتجه إلى دراسة التحديات الحديثة والمعقدة التي يواجهها العالم، مثل التغيرات المناخية والهجرة والعولمة والتكنولوجيا والصراعات الدولية، وتعمل على إيجاد الحلول العلمية والإنسانية لهذه التحديات.  ومن أهم الابتكارات الحديثة في مجال الأنثروبولوجيا هي استعمال التقنيات الحديثة في جمع البيانات وتحليلها، مثل استعمال الأجهزة الذكية والشبكات الاجتماعية والروبوتات والتعلم الآلي، وهذا يمكن أن يساعد على فهم أفضل للثقافات والمجتمعات المختلفة وتحليل العوامل التي تؤثر في تطورها.  ويمكن القول بأن الأنثروبولوجيا لا تزال مجالًا حيويًا ومهمًا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث تعزز فهمنا للثقافات والمجتمعات المختلفة وتساعد في تحليل التحديات التي يواجهها العالم الحديث، وتعمل على إيجاد الحلول العلمية والإنسانية لهذه التحديات.

 وتشهد الأنثروبولوجيا في الوقت الحالي العديد من التطورات الحديثة، التي تعمل على توسيع نطاق دراستها وتحديثها، ومن أهم هذه التطورات:

1 - الأنثروبولوجيا الرقمية: إذ يتم استعمال التقنيات الحديثة في جمع البيانات وتحليلها، واستعمال الأجهزة الذكية والشبكات الاجتماعية والروبوتات والتعلم الآلي، وذلك لفهم أفضل للثقافات والمجتمعات المختلفة وتحليل العوامل التي تؤثر على تطورها.

2 - الأنثروبولوجيا البيئية: يدرس هذا الفرع العلاقة بين الإنسان وبيئته، وتحليل تأثير التغيرات المناخية على الحياة البشرية والثقافات المختلفة.

3 - الأنثروبولوجيا الطبية: يفحص هذا التخصص العوامل الثقافية والاجتماعية المؤثرة على صحة الفرد والمجتمع، وتحليل تأثير العلاجات والأدوية على الأشخاص والثقافات المختلفة.

4 - الأنثروبولوجيا القانونية: يسعى هذا الفرع لفهم العلاقة بين القانون والثقافة والمجتمع، وتحليل تأثير القوانين والأنظمة القانونية على الحياة البشرية والثقافات المختلفة.

5 - الأنثروبولوجيا الرقابية: يركز هذا الفرع من الدراسات على فهم العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتحليل تأثير السلطة والحكم على الحياة البشرية والثقافات المختلفة.

6 - الأنثروبولوجيا الفنية: إذ تركز هذه الدراسات على فهم العلاقة بين الفن والثقافة والمجتمع، وتحليل تأثير الفن على الحياة البشرية والثقافات المختلفة، ويتم تحليل الممارسات الفنية والفنانين والجماعات الفنية والمعارض الفنية وأعمال الفن الشعبي وغيرها.

7 - الأنثروبولوجيا الجنسانية: يسعى هذا التخصص من الدراسات على فهم العلاقة بين الجنس والثقافة والمجتمع، وتحليل تأثير الجنسانية والممارسات الجنسية والميثاق الاجتماعي على الحياة البشرية والثقافات المختلفة.

8 - الأنثروبولوجيا العابرة للحدود: تركز هذه الدراسات على فهم التفاعلات بين الثقافات والمجتمعات المختلفة عبر الحدود الوطنية، وتحليل تأثير العولمة والهجرة والتجارة والسياسة والتواصل الدولي على الحياة البشرية والثقافات المختلفة.

 وتشكل هذه التطورات الحديثة في الأنثروبولوجيا فرصًا للبحث والاستكشاف وفهم المجتمعات المختلفة وتحليل العوامل التي تؤثر على تطورها، وتعزز الأنثروبولوجيا كعلم اجتماعي مهم ومتنوع.

 وفي النهاية، يمكن القول بأن ابتكار الأنثروبولوجيا كان من أهم الابتكارات العلمية في التاريخ المعاصر، إذ اسهمت في فهم الثقافات المختلفة وتحليل تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على تطورها، وفي تحقيق التعايش المشترك والتسامح والتعاون بين الثقافات المختلفة.