دائرة الأحلام في رواية (آرام)

ثقافة 2023/08/23
...

 د. فاضل عبود التميمي

   تريد هذه المقالة أن تقرأ ظاهرة (الحُلم) في رواية (آرام) للروائيّة الأردنيّة فاطمة محمد الهلالات الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنيّة: 2022، منطلقة من اللغة التي تتحكّم بمدلول الحلم، وطرائق صوغ الخطاب، بوصفها نسيج الدلالة السرديّة المهيمنة على المتن الروائي، ورواية (آرام) في بنائها، وحضور تلفظاتها سرد منفتح على سيرة (يوسف) العامرة بالبؤس، والشقاء، والترحال، الباحثة عن شيء مفقود اسمه الحياة،

 فها هو يغادر وطنه نحو بلد خليجيّ بعد أن طلّق زوجته (سمر)، ثم غادر إلى روما، وسويسرا، والبوسنة والهرسك، ليقفل عائدا إلى بلد خليجي آخر فتكتمل دائرة الأحلام من خلال الأمكنة التي ما إن يعيش فيها حتى يكتشف زيفها، وأنها ليست له، لينتهيَ السردُ مقبوضا على (يوسف) وموظفة التصوير (آرام مؤمن) بفعل وشاية كاذبة، ومحكمة لا تفرّق بين الصادق، ومدعي الصدق، ليكونا في الحُلم الأخير، وقد رمّز لهما بتمثالين وضعا تحت ظلّ شجرة تخليدا لهما، وللقيم الإنسانية الساطعة مثل النور التي عاش يوسف وآرام من أجلها، فكأن الحلم في النهاية كان درسا سرديّا لمن يتلقى الرواية، ويفكّك مضمونها، وقد انفتحت نهايتها على تأويل حار المؤولون في تفسيره.
  بُنيت الرواية على وفق سرد متقطّع اعتمد على خاصيّة عدم التسلسل المنطقي للأحداث، وقد برّز هيمنة الحلم بما امتلك من مرجعيّات ثقافيّة، واستعاريّة، لها صلة بوجود السرد، وتكرار دلالاته، والحلم في الأساس لحظة زمنيّة ليست عابرة، تقع خارج وعي الحالم تهدف إلى تحويل الرغبات إلى أفكار لغرض إشباع ما هو مكبوت، وغائر في النفس، وقد خضعت الرواية لهيمنة الحُلم بدءا من عنوانها؛ (آرام) المرأة الحُلم الأكبر في المتن، واليوتوبيا التي تنتظر من يفتح مغاليقها، وقد أدركها يوسف طيفا متجدّدا يستحق الاسترجاع، ومرورا بمقدمة الرواية التي نصّت على أن أحلامنا ليست من الوهم والخيال الدائم، وليست أضغاثا مجردة، فإن كنتَ - والخطابُ للمتلقي- مؤمنا بحُلمك فاتّبعه، والإهداء الذي خصّ الحُلم الموؤود، والتائه، والحذر، وللقلب الذي دفن حُلمه قبل أن يولد، ومن ينتظر، وفي متن الرواية الذي سنكشف عن أحلامه، وانتهاء بحضور الحُلم في خاتمتها، وقد توهّج فيه تمثالان بوصفهما رمزين ينزفان الحُلم على أكتاف الأمل.
  اقترن الحُلم أولا بالشخصيّة الرئيسة في الرواية (يوسف عمران)، وهو اسم يحال على مرجعيّة إسلاميّة اقترنت سرديّتها الأولى برؤية نبي الله يوسف(ع)، وقد تحقّق ما فيها بعد تأويل :{يا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}، وإذا كان (يعقوب) قد أوصى (يوسف) في النصّ القرآني الكريم بأن {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}، فإن نصّ الرواية غاير في طبيعة النسق لتكون الوصيّة من أم يوسف، وهي تنصح ابنها كلما سرد لها رؤيا أو حُلما: (يا بني لا تحدّث أحدا برؤياك، ولا تفسرها، ولا تلتفت إليها، ومن الأفضل أن تنساها)، والهاء المتكررة تحيل على الأحلام بلا شكّ.
  وكان ليوسف، وهو في وعثاء السفر أن رأى الحلم نفسه المنفتح على وجود (آرام) من دون أن يتأكد أهو اسم لرجل، أم امرأة، أم مكان عليه أن يقصده، فهو في حيرة حقّا، ولاسيّما أنّ سلسلة الكوابيس تطارد راحته، وتقضّ مضجعه، وهو لا يدري أن (آرام) في النهاية شعور الخائف بأمانها، وهي تنسل من حقب التاريخ مدينة عمّرها الآراميون وهي تشيّد استقرارها الاجتماعي، حيث الصحراء، والأوتاد، والحجارة، ويوسف كما تخبرنا الرواية نسيج وحده في الأحلام، غالبا ما يصحو على حلم، أو اثنين، أو ثلاثة، أو مجموعة غير متجانسة؛ تركيب مختلف لأحلام تجتمع في حُلم أكبر واحد يأخذه على محمل الجدّ نحو التأويل.
   تتكرر الأحلام في رأس يوسف فينشرح لها أملا في التواصل الدائم معها، في أحدها عاش في فضاء أخضر، كناية عن وصوله إلى بلاد (الآخر) البعيد، لكنّ الانشراح لم يدم طويلا، فها هي زوجته توقظه صباحا لغرض العمل، كأنها أخرجته من الجنّة، في إشارة خفيّة إلى ما فعلته حواء في آدم، هل كان يوسف يقارب بين المرأتين؟ تطارده الأحلام، وهي ممتلئة بحقائب السفر، الصورة المتمناة لمشكلة يوسف، وهو راض بها، فالأحلام ليست قرارا اتخذه قبل النوم ليكون بها سعيدا، إنّما هي سلطة مسلّطة على لا وعيه اتخذت مكانا مهمّا في وعيه، ولهذا كان قد آمن بضرورة اتّباعها، والتعايش معها من خلال شعاره المتكرّر في متن الرواية "اتّبع حلمك"، وهذا ما كان له حتى تعب الحُلمُ منه.  
   تشبّعت نفسُ يوسف بالأحلام، وما فيها من هوس آخذا إياه نحو الراحة، وقد قدّر لها أن تصبح خطابه المعتاد، وأن يضمرها أحيانا في سياقاته الموجزة تاركا للمتلقي فرصة إكمالها من خلال تأويل يملأ الفراغ تحقيقا لرغبة يريد التشبث بها، هذا هو الحال في مظان مهمّة ليست قليلة في سرد الرواية، مثالها؛ كان يوسف في سفره الأول باتجاه المدينة الخليجيّة، يقول: "الجو بارد علّنا نتمكّن من الإغفاء ولو قليلا"، وللمتلقي أن يقترح بعد (قليلا): بانتظار الحلم بالتأكيد، ولك أن تقرأ في الرواية: " له أن يتمتم ببضعة كلمات، فكرّر من ورائه جميع الراكبين (الحمد لله) وسكن غضبهم حتى غفوا"، وللمتلقي أن يقدّر بعد لفظ (غفوا)؛ وهم ينتظرون الأحلام، وكان ليوسف أن عكس تصوّراته عن الأحلام وهو يراقب زميله بلال الذي جلس جواره في الحافلة فقد وجده "يقلب رأسه يمينا وشمالا " ربما بانتظار الحلم، وليوسف ليلة قضاها متعبا على الحدود الرابضة بين بلد المغادرة، وبلد الاستقبال قال عنها: "هكذا مضت ليلتنا الحدودية المقيتة...، فبعد لفظ المقيتة تولّت النقاط السود ملء الفراغ بعبارة مقترحة مؤدّاها: بلا حلم، وهكذا تجد يوسف يسرد ما يعانيه في السفر، ولكن بانتظار الحلم، "أغمضَ عينيه على أنين حديثها، وهي تنثر وردا من الحب فوق تراب أبيها الذي لم تعرفه"، فإغماض العينين إشارة سردية لتلقي الحلم لا غير، وتقرأ في الرواية : "وجاء الليل محملا بها...، ويستطيع المتلقي أن يملأ حيّز النقاط بعبارة؛ من خلال الحلم.
  كان يوسف ضجرا من القرية التي عاش فيها، والقرية هنا رمز لكلّ بلاد تضيق بأهلها، فهي بحسب تعبيره المتناص مع القرآن الكريم: ظالم أهلها، وقد دفع الظلم في كثافته غير (الأخلاقيّة) حلم يوسف لأن يكون فجيعته حينَ رأى ذات حُلمٍ تلك القرية تغرق في ماء عميق كأنه البحر ليختفي الناس والبيوت، ولم يبق غيره جالسا على قمّة جبل، هل كان يوسف يستعيد النسق القرآني لصورة طوفان نوح؟ جاء تفسير الحُلم من زميلة أبي قيس: لقد وقعت قريتك في الفتنة، فنجوت، وربما أراد أن يقول كما نجا نوح، كانت قريته مثالا صارخا لنصرة الظالم على المظلوم، يبيع أهلها الثمين ليشتروا به أرخص الرخيص، في إشارات كنائية ثقافيّة تفكّك أخلاق الناس، وتحاول أن تقرّب طوفان نوح من طوفان قريته التي ابتليت بما ليس لها.
  إذا كانت الأحلام متنفّسا جميلا لحال يوسف كما مرّ، فان الكوابيس فعلت فعلها الخطير في حياته من خلال سردها، وتكرارها، نحو: حُلم البحث عن فردة حذائه المفقود في مكان لا يعرفه، وفي الحُلم الآخر؛ ارتداء ثوب مشوّه عليه أن يخلعه، فضلا عن الحُلم الخاص بمركبته التي تهوي به وبزوجته إلى منحدر، رؤى غريبة كانت تحضر في رأسه لترعبه، وهي  تتكرّر؛ رؤيا العقرب، والأفاعي المختلفة الحجم، والوجوه البيضاء وقد اسودّت، كان في حيرة من كوابيسه، حتى صمم مرّة على أن يسافر درءا لتلك الكوابيس علّه يفارقها، ويفارق الفتنة، والجوع، والإملاق، ليبدأ من جديد سلسلة أحلامه.
  في الطريق إلى البلاد الأخرى رأى حُلما جديدا؛ يمشي في طريق طويل لبستان أخضر تحفّه ورود الجوري؛ زهري، وارجواني لم يرَ مثله في الواقع، فبعث في روحه الأمل، وهو ينتظر جميل المجهول الذي سافر من أجله، قال مساعد السائق للراكبين: أمامكم ثلاث ساعات للتسوّق في هذه المدينة التي اسمها (حلمياهور)، لندقّق في اسم هذه المدينة، ومقدار ارتباطه بالحُلم، فقد تخيّرته الرواية من ثقافة مجاورة، فـ(لاهور) اسم مدينة باكستانية دلّ لفظها على (القلعة)، وهذا يعني أن (حلمياهور) هو (قلعة الحلم) التي ستكون مدينة يوسف الفاضلة، فقد نزل فيها، وتبعه رجل خمسيني، وفتاة بدأ يسترق النظر إليها، قال: "كأني رأيتها ذات حلم"، في إشارة إلى أنّها قد تكون آرام.
  كان يوسف قد رأى من الأحلام، والرؤى، والكوابيس، والأطياف المختلفة الدالة على حالة واحدة أو متغيرة تخصّه، لكنّ ما رآه بحسب سرد الرواية كان تعبيرا دقيقا عن المحنة التي عاشها، ويعيشها بوصفه إنسانا مجرّدا من الخبث، والأنانيّة، والرذيلة، والضغينة، وهذا ما يتمثّل في قلوب الملايين التي تعيش محنة الحياة بين فكي المحيط والخليج، وليس لها أمل سوى الهجرة مسبوقة بالأحلام التي تتّجه نحو المكبوتات، وهي تهذي ليلا بفعل تراجع الوعي والشعور، وغلبة المشاعر، والتحرّر من القيود للدخول في حالة التمتّع النفسي ظنّا أنها منطقة الحلّ الأمثل، ولو لثوان معدودات يتمنى الحالم استمرارها كي يتيح لروحه حريّة التفريغ، وهو يمور بين سندان الحلم، ومطرقة الحقيقة، ليبقى السؤال المهم: هل الهجرة هي الحل؟ ليكون الجواب لا.
  وبعد: فإن رواية (آرام) استطاعت أن تمثّل مكبوتات الرجل العربي من خلال قلم امرأة نذرت لغتها الجميلة المنفتحة على شعرية التناص، والسرد المنظّم كي تقول ما على لسانها بعيدا عن تنظيرات النسويّة، ومقولاتها، وأيديولوجياتها التي تفصل بين أدب المرأة، وأدب الرجل. لقد انفتحت الرواية على نفسها، ومجتمعها غير المحدّد زمانا ومكانا، وقدّر لها أنْ تكون مثالا عابرا للحقيقة نحو زاوية الحلم؛ ذلك الذي ظلّ يداعب مشاعر الإنسان المتعب، وهو يعتزم الرحيل نحو بلاد الآخر.