د. جاسم خلف الياس
بلغة سرديَّة مسكونة بالطراوة، وحالات شعريَّة ساحرة، وذاكرة حبوريَّة ذات طقوس حسيَّة مذهلة، ومخيّلة مؤثثة بلذة التفاصيل الصغيرة وآلامها، وأحاسيس جيّاشة ومتزاحمة، يأخذنا الشاعر والناقد علي جعفر العلاق إلى مملكة الدهشة، ليخبرنا بعد أن يطوف بنا في أرض، ما تزال حجارتها زلقة الملمس بفعل ما علق بها من دم وأنين، بأنَّ كلَّ شيء سيحدث في عوالمه التي لم تعد مغلقة أمام اعترافاته النبيلة، وأنَّ كلَّ شيء سيجيء في صياغات ومواقف وانتماءات مسكونة بالفرح والفجيعة في الآن نفسه، فهل شكّل التضاد المفترض في عنوان مجموعته الشعريَّة الأولى نبوءة للآتي في قابل الأيام؟ وأقصد بالتضاد المفترض (كل شيء يحدث/ كل شيء يجيء)؟.
ما أثارني في هذه السيرة هو تزاحم الاسترجاعات المرصّعة بالحيويَّة في سرد ذاتي، رشقنا العلاق برذاذه في هذا الصيف اللاهب، فعشنا معه بكلِّ تفاصيله الموجعة، ومراراته العصيَّة على النسيان، ونكهاته الفواحة بالمسرات، وعبق روائحه الخاصة بـ(الحاوي) والتشكّلات المائيَّة التي أصبحت فيما بعد وطناً للطيور، حتى أصبح عنوان مجموعته الثانية (وطن لطيور الماء) و(للماء عليّ سطوة لا تخفى؛ فهو يضعني دائماً في مناخات وجدانيَّة بالغة القسوة والعذوبة، تتمثل ربما في الحزن المندفع كالغيوم الأولى). ودعوات للتأمل في طبيعة قرويَّة تكتظ بالبراءة والقسوة وإغراء الحواس في ضجّتها الخضراء. كما أخذتني مباهج اللغة وهي تصوغ حالاته الشعريَّة التي تعاضدت مع السرد لتمنحنا دفئاً نعتّقه لشتاء قارس وفيضانات شرسة، وجنون طيني مفاجئ، وتقمص شره لحواس طفل ربط لغته إلى الماء، فضلًا عن تشكلاتها السير- ذاتيَّة التي استطاعت أن تجرّنا عنوة للعيش مع تواصل أزمنتها التي علّمته (الإصغاء إلى الريح الشتويَّة وهي تردد نواحها الليلي البارد في الحقول المجاورة)، وحنين أمكنتها التي علّمته ألفة (طيور الحصاد، والغجر القادمين من وراء الظنّ: يصنعون في النهار حليّ النساء وخناجر القتلة، ويبيعون الطرب والملذات في الليل)، والاقتراب بحميميَّة من شخوصها الذين تناسلوا بهدوء على الرغم من الصخب الخلّاق الذي كان يمخر عباب الذاكرة، بدءًا بـ(الحجاج بن يوسف الثقفي)، وانتهاءً بـ(شابة في مقتبل نضجها الأثير)، و(شيخ يدبّ على عكازين من ضجر) ، وحركيَّة أحداثها التي يتعالق فيها الواقعي بالمتخيّل، ولا يمكنني أن أقتطف لذلك أي مقطع يناسب هذا التشخيص؛ فالقصيدة/ الحلم/ العمر/ المسرات/ الأوجاع..... كلها جاءت ضمن هذه المكونات السيريَّة. والآن نتساءل: هل يمكن فصل هويَّة المرء المرتبطة بتفسير الماضي الشخصي عن الأفكار المعياريَّة في الواقع عند كتابة السيرة الذاتيَّة؟ ويأتي الجواب بالنفي؛ لأنَّ الهويَّة الشخصيَّة- حسب بول ريكور- مسار تكويني يصاغ بفن سردي، وحركة تفاعليَّة بين الأنا والآخر، فتشكل حسب هذا المفهوم انخراط الإنسان في السرد وهو يسعى للتعرف على مناطق ملغزة في حياته بذات الأهميَّة حين تكشف عن مجالها المرئي والبسيط إلى الآخر.
وإذا كان في السيرة الذاتيَّة يأتي حديث السارد المشارك في الأحداث عن نفسه بوصفه كائنًا متميزًا في هذا السرد، له بصمته التي لا تعني إلا هو، وهواجسه التي تشكل انفعالاته وتطلعاته، وأفكاره التي تجعل منه هذا السارد ذاته، فقد جاء السارد هنا (علي جعفر العلاق) بضميرين للمتكلم، الأول ضمير الـ(أنا) الذي يطغى في السيرة الذاتيَّة، والثاني ضمير الـ(نحن) الذي يأتي حسب حاجة السرد إليه، وفي الأغلب يأتي عندما يحاول السارد أن يسرد معلومة ما، كما في سرده عن الغجر (كنّا نظنهم معروفين في قريتنا والقرى المجاورة فقط، فمن أين لنا، نحن الأطفال، أن ندرك أنَّ هذه المجاميع من البشر كانت تجوب العالم كله تائهة مشتتة منذ زمن طويل، مواطنون عالميون، يمتهنون التشرد أو الغناء أو الرقص، وبيع اللذة ، واللصوصيَّة أحياناً). وهنا تتضافر قصص الذات مع قصص الآخر، ولا يكون تذكر الماضي إلا ضئيل القيمة فيما لو انفصل ولم ينصهر مع المعرفة، وعلى هذا الأساس لا يصف كتاب (إلى أين أيتها القصيدة) بوصفه السيرة الذاتيَّة لحياة (العلاق) وهو يستدعي أحداث الماضي في لحظات التذكر بثراء وعمق، بل يبتكر حياة نصيَّة جديدة له عندما تنصهر خبرته الكتابيَّة في سرد لحظات الماضي مع سرد قصص أخرى تعضّد وتؤازر مداخل ومخارج تلك اللحظات. ونادرًا ما تلتفت السيرة الذاتيَّة إلى ضمير الغائب (هو) أو (هم) كما في حديثه عن زملائه المشاكسين له بطريقة استفزازيَّة: (حدث ذات مساء أن مرّ عليّ ثلاثة منهم، كانوا في لحظة من عبثهم المرّ، أو تعبيرهم المشين عن شبق الشباب وضغوطاته.....).
ولأنَّ الكاتب لا ينشغل في السيرة الذاتيَّة بما هو موضوعي إلا نادراً، نراه يوغل في الذاتيَّة التي هي ميدانه الخاص، فيتجاذبه فعلان سيريان، الأول: انتقاء المواقف الشخصيَّة المؤثرة في الماضي، والثاني: تبرير تلك المواقف، وكأنَّ مهمة السيرة حسب جسدروف في المقام الأول هي مهمة الخلاص الشخصي، مهمة إعادة تجميع العناصر المتناثرة لمصير يبدو أنه كان جديرًا بعناء المعيشة. ويبدو أيضًا أنَّ هذا الفعل الكتابي هو ما دعا علي جعفر العلاق (الشاعر) إلى عدم مغادرة الواقع النصي الشعري على الرغم من ثراء سيرته الذاتيَّة، بل كان يعزز كثيرًا من أسرارها المتشابكة بمقاطع شعريَّة تبرر ذلك الحدث أو الموقف الذي أتت في سياقه، (أراد أن يجعل شعره نابضًا في قلب السيرة، بل يمنحه حياة جديدة وتلقّيًا جديدًا).
وختامًا نقول: إنَّ الشاعر والناقد علي جعفر العلاق استدعى في سيرته الذاتيَّة (إلى أين أيتها القصيدة) ذكريات طفولته في قرية من قرى واسط، تلك الطفولة التي تفتّحت على عاقول البراري ونكهة الحقول الفوّاحة. كما استدعى ذكريات نزوحه من تلك القرية إلى العاصمة (بغداد) التي شكّلت فيما بعد كتاباته الشعريَّة، وثقافته الشخصيَّة وجعلته شاعرًا من جيل الستينات، ولم يكن منه في اللحظة نفسها كما يقول: (كنت أنمو بعيدًا عنه ولكني في المناخ ذاته، أحاول كتابة قصيدتي بطريقتي الخاصة). واستدعى منعطفًا جذريًا في حياته، جعله يحس بالهرم فجأة، هو موت أبيه، ومن ثم تعلّقه الوجداني بأمه، والتوغل أعمق في مظان الكتابات الشعريَّة والنقديَّة، والانفتاح على العالم العربي عبر النشر في الصحف والمجلات العربيَّة. ثم طبع مجموعاته الشعريَّة وكتبه النقديَّة في عواصم عربيَّة لها ثقلها الثقافي (بغداد، بيروت، القاهرة، دمشق، صنعاء......).