نحو دستورٍ خالٍ من الضعف
أ. د. عامر حسن فياض
انطلقت نظرية الدورة التاريخية المتعاقبة للدساتير والنظم عند بوليب من دراسته لأنظمة دولة المدينة ودساتيرها وتحولاتها، ومحاولته تجنيب روما الآثار السلبية لتلك الدورة ونتائج المرور بها، والتي يجد الحل المناسب لمشكلاتها في أخذ روما بنظام الحكم المختلط المستند إلى فكرة الدستور المختلط، حيث استخلص من قراءته لوقائع التاريخ السياسي الروماني
إن مرجع قوة روما ومصدر عظمتها يكمن أولا في دستورها المختلط القائم على الجمع بين أنظمة متعددة ومختلفة تندمج مع بعضها في إطار واحد بدقة وتوازن كاملين، بما يضمن توزيع السلطة بين القوى والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والرقابة المتبادلة بينها.
وقد عاش الرومان على أساس هذا الدستور في ظل نظام سياسي تمتزج فيه وتتوازن وتتعاون سلطات (القنصل/ المستشار كتجسيد للنظام الملكي الفردي) و (مجلس الشيوخ كتجسيد للنظام الارستقراطي النخبوي) و(المجالس الشعبية كتجسيد للنظام الديمقراطي الشعبي).
وباجتماع قوى هذه الأنظمة وتعاونها ورقابتها على بعضها، امتلكت روما مقومات القوة والعظمة التي أتاحت لها فرض سلطانها على الآخرين وإخضاعهم لإرادتها.
ولاحظ بوليب من مقارنته بين دستور روما ونظام حكمها ودساتير قرطاجة والدول اليونانية وأنظمة الحكم فيها، تميز الدستور الروماني ونظامه السياسي وتفرده، الذي منح روما المصدر الثاني لقوتها والمتمثل في طبيعة المواطن الروماني الواعي سياسياً، العارف بحقوقه وواجباته، الحريص على دستوره ونظام دولته.
ورأى بوليب أن العوامل الدينية هي الأصل في حب المواطن الروماني لروما واستعداده للتضحية من أجلها، وأرجع هذه العوامل أيضا إلى طبيعة النظام السياسي الروماني، الذي كان الدين ركناً أساسيا من أركانه، وعنصراً من عناصر دعايته السياسية.
ووفقاً لقانون الطبيعة والدورة التاريخية المتعاقبة للنظم السياسية والدساتير، رأى بوليب ان روما وبعد صعودها إلى القمة، يمكن أن تصاب بضربات تعيدها إلى ما كانت عليه من قبل، ولن يحميها من ذلك إلا محافظتها على دستورها ونظامها المختلطين، لأن قوتها بالأصل تكمن في نظاميها الدستوري والسياسي لا في رضا الآلهة عنها.
وعلى هذا الأساس عّد بوليب (النظام المختلط هو النظام الأمثل في الحكم، وأن أفضل الدساتير هو الدستور المختلط الذي يعبر عن جوهر هذا النظام)، ورأى أن بمقدور روما الاعتماد على فكرة الدستور المختلط للحد من النزوع الطبيعي لأنظمة الحكم والدساتير كلها نحو الفساد، لأن هذا الدستور يضمن لنظام الحكم ومؤسساته وسلطاته المتعددة، قوة متعادلة ومتوازنة، فلا يتاح لإحداها ان تتغلب على القوى الأخرى، ومؤسساتها وتنفرد بفرض نظامها على الدولة، لتصبح ملكية أو أرستقراطية أو ديمقراطية، كما ستكون لها مؤسسة وسلطة لها القدرة على مراقبة المؤسسات والسلطات الأخرى وكبح جماحها ومنعها من الانفراد بالقوة وتحقيق الغلبة والتفوق.
فإذا ما تفوقت إحدى القوى السياسية وسلطتها ومؤسستها، فإن الدستور المختلط سيمنعها من جعل استبدادها بأمور الحكم استبداداً كاملاً ومطلقاً ودائماً، لأن طبيعة الدستور المختلط تسمح للقوى والسلطات الأخرى في الدولة بمواجهتها والتصدي لها، ليعمل النظام الدستوري والسياسي المختلط على استمرار حركة التقدم، ولكن ليس إلى الحد الذي يغير من طبيعة الدولة ونظام الحكم فيها ولا بالشكل، الذي يجعل سيطرة إحدى قوى النظام ومؤسساته وانفرادها بالسلطة أمرا ممكناً.
ويمكن تسجيل أربع ملاحظات أساسية بصدد نظرية بوليب عن نظام الحكم المختلط:
إن حتمية حدوث الدورة التاريخية المتعاقبة للدساتير وأنظمة الحكم وما تنتهي إليه من فساد الدساتير والأنظمة وانهيارها، قانون ثابت ومؤكد وعام بالنسبة لكل أنواع الدساتير والأنظمة ذات الطبيعة الأحادية.
إن حتمية حدوث الدورة التاريخية المتعاقبة للدساتير وأنظمة الحكم وما تنتهي إليه من فساد الدساتير والأنظمة وانهيارها، لا تنطبق على الدستور ولا نظام الحكم المختلطين بحكم امتلاكهما عناصر مضادة لها تمنع تأثيرها في هذا الدستور ونظام حكمه.
إن قوة الدستور ونظام الحكم المختلطين تستند إلى توازن القوى الاجتماعية، وليس إلى توازن القوى السياسية كما ذهب أرسطو من قبل.
إن التقسيم السداسي للدساتير وأنظمة الحكم ظاهرة خاصة بدولة المدينة اليونانية، ومستمد من تجربتها السياسية التاريخية.
ولكن أهمية نظريات بوليب وأفكاره السياسية لا تعود فقط إلى تحليله التاريخي المقارن للدساتير والنظم السياسية، ولا لمجرد وصفه لمبادئ الدستور المختلط وقواعد نظامه السياسي المختلط فقط، بل وترجع أيضا إلى تأثيره في الفكر السياسي من بعده بشكل عام.
حيث يمكن تلمس تأثيرات نظريته عن النظام والدستور المختلطين في الفكر السياسي في العصور اللاحقة الرومانية الوثنية والمسيحية الوسيطة وبشكل خاص أفكار شيشرون.
ويرى (جورج سباين) أن تأثير أفكار بوليب امتد حتى وصل إلى الفكر السياسي الحديث، عندما تأثر بها مونتسكيو الذي تأثر بأفكاره واضعو الدستور الأمريكي من الآباء المؤسسين الأمريكيين.
واقتبست النظم السياسية الغربية الحديثة تقاليد النظم السياسية الرومانية القديمة عن أفكار بوليب التي كان أهمها:
فكرته عن الدستور ونظام الحكم المختلطين التي تأثر بها مونتسكيو، ووجدت طريقها إلى التطبيق على يد الآباء المؤسسين الأمريكيين الذين أخذوها عن مونتسكيو، وطبقوها لأول مرة في النظام المختلط الدستوري والسياسي الحديث الذي أقاموه في الولايات المتحدة الأمريكية.
فكرته عن نظام الفصل بين السلطات التي تأثر بها مونتسكيو وأخذها عنه وليس عن أرسطو، الذي كان أول من تحدث عن هذا النظام، ثم وجدت طريقها إلى التطبيق على يد الآباء المؤسسين الأمريكيين الذين أخذوها بدورهم عن مونتسكيو، وطبقوه لأول مرة في النظام المختلط الدستوري والسياسي الحديث الذي أقاموه في الولايات المتحدة الأمريكية.
فكرته عن مبدأ حق الاعتراض على القوانين والأحكام المستند إلى مبدأ مراقبة السلطة بالسلطة وتقييد السلطة بالسلطة، ليتعذر على أية سلطة الانفراد بعناصر القوة والوصول إلى مستوى الاستبداد والتحكم المطلق في النظام السياسي، واحتكار سلطة إصدار الأنظمة والقوانين والتشريعات.
فكرته عن مبدأ توازن السلطات وتكافؤها، بوصفه نظرية قانونية ذات أسس اجتماعية ومقومات اقتصادية.
هكذا قدمت مساهمات بوليب وأفكاره السياسية تحليلاً لطبيعة النظام السياسي الروماني وخصائصه، وتحديداً لعوامل قوته واستقراره، مما أصبح في ما بعد من الأسس والقواعد العامة لقوة النظم السياسية واستقرارها، الأمر الذي تبنته أفكار ومساهمات سياسية أخرى، وأعادت صياغته، وفقاً لمنطق عصرها وخصائص مجتمعاتها وطبيعة أنظمتها الحاكمة.
ولكي ننتبه من اجل دستورنا فان كل ما تقدم يكشف عن عورة فيه، والتي لا نتخطاها دون تشكيل مجلس الاتحاد ضماناً للتوازن المؤسساتي بين المجالس التمثيلية التشريعية على المستويين الاتحادي والمحلي.
ويكشف عن فيروس المحاصصة التي حرفت التوازن، لتجعل منه توازناً اجتماعياً تقليدياً غير سياسي قائم على أسس القومية والمذهبية.
ويكشف عن اللا توازن في الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والمضادين الحيويين لتلك العورات والفيروسات الدستورية، لا يمكن معالجتها دون دستور متوازن ونظام سياسي مختلط والمواطن العراقي الواعي سياسياً.