عبد الحليم الرهيمي
تصادف اليوم الذكرى الثانية بعد المئة للتويج الأمير فيصل نجل الشريف حسين شريف مكة ملكاً على العراق في 23 آب عام 1921 باحتفال مهيب، لكن متواضع أقيم في ساحة القشلة ببغداد بحضور عدد من القيادات العراقية السياسية والدينية والعشائرية، وكذلك بحضور عدد من القادة العسكريين البريطانيين.
وبدءاً من ذلك التاريخ دشن الملك ولايته بحكم العراق، التي استمرت 12 عاماً إثر وفاته في سويسرا في 8 ايلول 1933 بعد اجراء عملية في أحد مستشفياتها.
ربما يتساءل البعض لماذا يستعاد الحديث أو الكتابة عن حدث أصبح من الماضي الذي لا يستوجب الكتابة عنه واستعادة ذكراه؟ لكن الواقع غير ذلك، فاختيار القادة العراقيين والبريطانيين لقائد أو حاكم للعراق بعد تحرره من السيطرة العثمانية، وقيام أو انتهاء ثورة 1920 الوطنية حتمت عليهم مثل ذلك الاختيار، الذي تقرر في مؤتمر القاهرة الذي عقد في آذار عام 1921 برئاسة وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل وحضور عدد من القادة العسكريين والسياسيين البريطانيين والعراقيين الذين قرروا اختيار الامير فيصل نجل الشريف حسين، ليكون ملكاً على العراق، وحاكماً للدولة العراقية الحديثة المزمع تأسيسها، إذ أقر هذا المؤتمر قضايا أخرى تعهدوا بدعم ترشيح فيصل والترويج له بين العراقيين بكسب تأييد قياداتهم السياسية والدينية والعشائرية. وقد تحقق ذلك بقرار مجلس الوزراء برئاسة عبد الرحمن النقيب الموافقة على ذلك الترشيح وانجزت مضابط شعبية في معظم الولايات العراقية، التي وافق غالبيتها على ذلك الترشيح دون شروط وآخرون بشروط.. وهكذا تم التتويج في الثالث والعشرين من شهر آب عام 1921.
لم تكن عملية الترشيح ودعمها والترويج لها وتحقيقها بالعملية السهلة جراء الاختلافات الكبيرة بين الكيانات الشعبية، وتنافس عدد من القادة العشائريين الأقوياء مثل السيد طالب النقيب، فقد تم انجاز تلك العقبات والابقاء على الترشيح المقترح.
باشر الملك فيصل الذي لقب بالأول بظروف وأوضاع شديدة الصعوبة والخطورة، وبينما كانت خطته تقضي بتوحيد ولايات العراق الثلاث بغداد والموصل والبصرة، اثيرت محاولات الدعوة لاستقلال البصرة والموصل والمناطق الكردية، واذ تمكن من تسوية هذه المشاكلة واجه ضغوطاً وانتقادات بعض القيادات السياسية والدينية الراعية للاستقلال وعدم القبول بالاملاءات البريطانية أو التحالف معها، لكنه تمكن من احتواء تلك المواقف وعقد المعاهدات مع البريطانيين على أمل السعي لتحقيق السيادة والاستقلال التامين للعراق. ومع تعدد هذه الإشكالات وقعت هجمات (الأخوان) من نجد السعودية، واربكت خطط الملك بالاستمرار في انجاز، وبناءً مؤسسات الدولة وإداراتها التي (بدأت من الصغر)، واذ ضمن عقد المعاهدات مع بريطانيا المسؤولة عن الانتداب على العراق في منع التدخلات الإيرانية والتركية والوهابية على الحدود العراقية، تمكن الملك بهذه المعاهدات من استرجاع الموصل، التي كانت تركيا تزعم احقيتها بها فأعيدت للعراق عام 1925.
وفي حمأة هذه المشكلات والمصاعب، التي تمكن الملك من تسويتها وحلها بالحنكة والاستفادة من التحالف مع بريطانيا، وكذلك من معارضة بعض الجهات العراقية لسياسية الملك بحكم العراق ولمساعي حكومته وإداراته. ومع مجموعة الشريفيين الذي عملوا تحت قيادته منذ البدء، تمكن العراق بقيادة الملك من الحصول على الاستقلال في الثاني منتشرين الاول عام 1932 وانضم في ضوء ذلك إلى (عصبة الامم) كعضو وكدولة مستقلة وذات سيادة.
إذْ حقق الملك فيصل الاول بنجاح وضع الركائز الأساسية لبناء دولة العراق الحديثة وتحقيق الاستقلال، الذي اعتبره البعض منقوصاً، فإنه حقق من جانب آخر بناء ما يمكن اعتباره مدرسة سياسية واعية ومتميزة مستفيداً من خبراته المتعددة وحنكته بالاستناد إلى مبدأ (خذ وطالب) خلال تعامله مع سلطة الانتداب البريطاني، وايضاً إلى أهمية حاضر ومستقبل العراق بإقامة أفضل العلاقات مع بريطانيا وعدم معاداتها، كما كان يريد البعض ذلك، هذا فضلاً عن حرصه على السعي لتحقيق وحدة الشعب المتعدد الكيانات والانتماءات الدينية والمذهبية والسياسية والعشائرية، وكان يؤلمه كما يقول تعدد تلك الولاءات كأحد الاسباب الرئيسة لعدم التمكن من تحقيق وحدة الشعب بسهولة.
إذْ تخلف بعض القيادات التي جاءت من بعده كالملك غازي والامير عبد الإله (الوصي) على العرض عن مواصلة مسيرة وسياسة الملك فيصل، فإن مثل هذه السياسة المدرسة كانت ولا تزال تعتبر مدرسة سياسية ناجحة ومعتدلة ومحنكة، احتاجها العراقيون في المراحل التي تلت حكمه، والتي لا تزال تصلح في الاستناد إليها حتى في المرحلة الراهنة.