مرتضى الجصاني
سألت ذات مرة أستاذنا الخطاط جاسم النجفي أطال الله في عمره: هل هناك مدارس للخط العربي بمعناها المتداول عالميَّاً؟ قال: يوجد حرف واحد ولا توجد مدارس. وما نراه هو أساليب لخطاطين فقط، يسلكها الذين بعدهم ولهم الحرية في التجديد والابتكار حسب الذائقة الفنيَّة والثقافيَّة للخطاط. هنا أنا اتفق مع كلمات أستاذنا النجفي. لأن الحديث عن مدارس الخط العربي حديث طويل وعقيم، بالنتيجة وحتى لا يكون الحديث أكاديميا سنتحدث هنا وفق مفاهيم بسيطة ومفهومة وسلسة حتى تكون متاحة للجميع ويفهمها من يطلع عليها من دون الدخول في مصطلحات لا جدوى منها سوى زخرف القول.
ومن هنا يكون السؤال هل هناك مدارس للخط العربي؟ مدارس بالمعنى الفني الدقيق وليس تدريس الخط. وللإجابة عن هذا السؤال علينا الرجوع أولاً إلى التاريخ.. نحو مسيرة الخط العربي وتطوره، حيث يصنّف بعض الباحثين «مدارس الخط العربي إلى ثلاثة مدارس، المدرسة البغداديَّة، المدرسة العثمانيَّة والمدرسة المصريَّة»، بالترتيب الزمني لتطور الخط العربي وبالرجوع إلى نماذج هذه «المدارس» نلاحظ أنّها سلسلة واحدة تحكّمت بها الظروف الزمنيَّة والاجتماعيَّة بحكم تمركّز الزخم الإسلامي عبر مراحله من الدولة العباسيّة إلى الدولة العثمانيّة ومن ثمَّ بقايا الدولة العثمانيّة في مصر، إذ يقوم كلُّ أسلوب من هذه الأساليب التي أطلق عليها لاحقاً مدارس على بعض الخصائص الفنيّة الدقيقة في تفاصيل الحروف وحجمها، كأن يطول الحرف أو يقصر أو يميل أكثر وهكذا مع اختلافات بسيطة في حركة سير القلم.. إذ وضعت المدرسة البغداديَّة التي نشأتْ مع ابن مقلة أصول الحروف وقياساتها والكثير من الأصول الفنية للحرف وطورت وابتكرت هذه المدرسة طرق قياس الحرف من الدائرة واتخذت من النقطة وحدة قياس للحروف وعبر المسيرة التاريخيَّة أضاف رواد الخط العربي في الدولة العثمانيَّة الكثير من الجماليّات داخل هيكل الحرف للصنف الخطي وخصوصاً في خط الثلث الذي اتخذ أشكالا كثيرة خلال مسيرته الفنيَّة، حتى وصل إلى الشكل الذي هو عليه الآن، وهي إضافات جماليّة واستغرق الخطاطون العثمانيون كثيراً في تجويد خط الثلث حتى وصلوا مراحل متقدمة من الشكل الجمالي المثالي.
أما المدرسة المصريَّة في الخط العربي فهي امتدادٌ للخطاطين العثمانيين، إذ تمثل ذلك بانتداب الخطاط الشيخ عبد العزيز الرفاعي خطاطاً في مصر وعلى يديه تخرَّج مجموعة كبيرة من الخطاطين المصريين على رأسهم سيد إبراهيم ومحمد علي المكاوي ومحمد عبد القادر وغيرهم، كذلك حدث الشيء نفسه في سوريا حيث انتدب الخطاط العثماني يوسف رسا لكتابة خطوط المسجد الأموي وتتلمذ على يديه مثلا الخطاط الشهير بدوي الديراني. أمّا في بغداد فقد ضعفت سطوة الخط العربي لكنّها لم تنقطع وكان هناك أعلام للخط في بغداد منهم الخطاط محمد علي الفضلي وملا عارف الشيخلي وقد حافظوا على أصول الأسلوب البغدادي العريق في الخط العربي وهذا الأسلوب شهد تجريباً ونمواً وتطويراً على مدى قرون من الزمن.
بالنتيجة فإنَّ الخط العربي هو فنٌّ تراكميٌّ جمعيٌّ وفرديٌّ في الوقت نفسه. تراكميٌّ جمعيٌّ من حيث الخبرة والتجربة الجمعيّة التي تكوّنت وأصبحت حالة عامة، وفرديٌّ من حيث طرق الإبداع الفني والتجويد الخطي؛ لذا يصعب أن نطلق مصطلح «مدرسة» على أساليب فرديَّة لخطاطين اجتهدوا وأضافوا وفق نظرتهم الجماليَّة، إذ إنَّ هذه الإضافات هي خلاصة الجهد الفردي من الخطاطين بشكل غير ملحوظ أو واضح، ثم تنامت حتى أصبحت شكلاً جمعيَّاً تراكميَّاً وامتدّت هذه الإضافات من عصر ابن مقلة الوزير إلى عصرنا هذا.
وبهذا وضعوا الروّاد «أصولاً خطيَّة» هذه التسمية أكثر واقعيَّة وأكثر عمليَّة، لأنَّ الأصول يمكن الإضافة عليها أو حذف ما يمكن حذفه أو اختزالها وما إلى غير ذلك، وهذا يتبع الثقافة الخطيَّة والثقافة العامة والموهبة والقدرة على الابتكار والذائقة الفنيَّة للخطاط المتمكّن. لأنَّ هذه الأصول ليست نصوصاً مقدَّسة، بل نسب فنيَّة كانت وما زالت مناسبة جماليَّة وبصريَّة على وفق نظرة الخطاطين، فإذا استحدث ما يمكن إضافته وخضع لنسب الجمال حسب وجهة نظر الخطاط لا بأس في تجريبه والفن مجموعة من التجريب والثقافة.
ولا يمكن تصنيف أساليب الخطاطين على أنّها مدارس فنيّة شبيهة بالتكعيبيّة والسرياليّة وغيرها لأنّها لم تخضع لمقاييس تكوين المدرسة الفنية نفسها من تنظير فني وفلسفي، كما أنَّ الخط العربي قائم على المفردات ذاتها أقصد حروف الأبجديَّة فالإضافة والتجديد لا يمكن أن تتعدى حدود هذه المفردات لذلك نحن بحاجة إلى مهارة وبراعة الخطاط في إضافة جماليّات ضمن قواعد الخط العربي غير المتفق عليها أساسا، وهذه القواعد تارة تكون حالة إيجابيّة وتارة أخرى تكون حالة سلبيّة. إيجابيّة من حيث إلزام المتعلّم بقواعد وأساسيات هذا الفن وسلبيّة من حيث تقييد الخطاط المتمكن من حرية التجريب مما جعل أغلب فناني الخط العربي أشبه بالقوالب الفنيّة المتشابهة يتكرّر ويكرّر نفسه في كلِّ مرّة مما جعل الخط العربي يقع في منطقة إرهاق جمالي عقيم لا يمكن التخلّص منه، وهذا التقوقع الفني لا يمكن الخروج منه إلّا بنقد أساسيات الفكرة القائم عليها الخط العربي المتمثلة بوجود «مدارس خطيَّة» بها قواعد صارمة واستبدال هذه الفكرة بنظرية أن كل تراث الخط العربي هو جهود فرديَّة وأساليب فرديَّة يمكن التخلّص من غير المناسب منها ويمكن إضافة المناسب إليها وتطويره وإبقاء القواعد الأساسيّة لهيكل الحروف، وبذلك يمكن المحافظة على هذا الفن كما يمكن تطويره من دون الخروج من مفهوم الخط العربي.