علي حسن الفواز
شارفت الحرب الروسية الأوكرانية على أن تتحول إلى "حرب استنزاف" وإلى حرب" رهانات" على هزيمة الآخر، وعلى جرّ العسكرة إلى استنزاف السياسة والأدلجة، هذا ما يجعلها أكثر بشاعة وقسوة، وأكثر إصراراً على المطاولة في سباق التسلّح، وفي صناعة الحلفاء والتحالفات، وعلى نحوٍ يجعلها باعثة على الانخراط في فكرة تقسيم العالم، أو وضع مفهوم "القطبية" العالمية أمام واقعية هذا التقسيم..
أطروحة الحرب الطويلة تقتضي اصطناع مُغذّيات دائمة لها، على المستوى الميداني، وعلى المستوى اللوجستي، لكن حرباً بمواصفات حرب "الدونباس" ذهبت إلى خيارات أخرى، وإلى مديات تجاوزت ماهو ميداني، وماهو لوجستي إلى ماهو سياسي وثقافي واقتصادي وجغرافي وغذائي، وحتى تاريخي، وبإتجاهٍ جعل منظّرو الحرب أكثر هوساً في البحث عن المخفي من الوثائق، والمسكوت عنه في السياسة، وبما يسمح بتوظيفها كمجال ستراتيجي لإعادة النظر بمفاهيم القوة والسيطرة والرقابة، وبأفكار الفلسفات النفعية، وأُطروحاتها المثالية عن البطولة، وعن اقتناص الفرص، ولفت الانتباه إلى الأخطاء التي قد يقع بها المحاربون..
إطالة أمد الحرب، فتحت الباب على صراعات أخرى، لاسيما في المجالات التي تتقبّل السجال والخلاف، بدءاً من صناعة الآراء، وصناعة المواقف، وصولاً إلى صناعة الخنادق، بما فيها الخنادق الاقتصادية، فمايجري من استعدادات لإنجاح أعمال مؤتمر تجمّع دول"بريكس" الذي تستضيفه جنوب أفريقيا، يؤكد هذا المسار الاقتصادي المعارض لدول "العشرين" والدول "السبع" إذ يطمح هذا التجمّع إلى التوسّع في قاعدته، وإلى الانفتاح على اقتصادات دولٍ لها طموحات سياسية، أو دول تعاني من مشكلات بنيوية عميقة، فضلاً عن مواجهة مايجري في خنادق أخرى لم تكن بالحسبان، لاسيما مايتعلّق بالجوانب الثقافية والنفسية، إذ أطلقت منظمة "اليونسكو" مؤخراً برنامجاً يخصّ معالجة الآثار النفسية للحرب على الطلّاب والمدرسين في أوكرانيا، وبما يؤشر تضرر البيئات التعليمية والنفسية والعاطفية جرّاء استمرار هذه الحرب الطويلة.
هذه المعطيات تكشف عن مفارقة تدخل في السياسة، وليس في جهد الأمم المتحدة الثقافي، فالحرب تعني تضرر الجميع، لكن الضغط الغربي وخطابه الإعلامي أطّر أضرار هذه الحرب في جانب معين، متغافلاً عن تأثّر الطرف الآخر، ومدى تأثير العقوبات عليه، وأحيانا قصف المدن الروسية، وهذا مايجعل مفهوم "الاستنزاف" يأخذ مساراً آخر، يتعلق بإثارة الرأي العام، وبوضع العالم أمام أخطار افتراضية أو واقعية، لكنها ستُهدد بمزيد من المشكلات، لاسيما مايتعلّق بالطاقة والغذاء والتضخم والأمن المجتمعي والزيادة المُفرطة في عسكرة الأرض، وتعرّض المناخ إلى أخطار ستراتيجية كبيرة..