الموازنة العامة بين المسايرة ومتطلبات التنوع الاقتصادي

آراء 2023/08/24
...






  أ.د. فلاح خلف الربيعي 


 تكشف بنود الموازنة العامة في عمقها الدلالي عن طبيعة توجهات وأهداف الحكومة الاقتصادية والاجتماعية، فهذه البنود ليست مجرد تخمينات رقمية فحسب، وإنما هي ترجمة عملية لفلسفة النظام الاقتصادي ومجمل أهدافه. فمن خلال تحليل هيكل النفقات العامة وهيكل الايرادات العامة، يمكن التعرف على طبيعة ومضمون تلك الأهداف وطبيعة توجهات هذا النظام الإنتاجية و/ أو الاستهلاكية. 

والمشكلة التي تواجه الموازنة العامة في العراق بعد عام 2003، هي تبعيتها المطلقة للتغيرات في الايرادات النفطية، التي تسهم بأكثر من 90% من الإيرادات العامة، فهذا التركز في المساهمة النسبية للإيرادات النفطية، جعل تلك الايرادات هي التي تتحكم بحجم الموازنة العامة وتحدد اتجاهاتها نحو العجز والفائض، التي ستنعكس بدورها على مستوى النمو الاقتصادي ودرجة استقراره واستدامته.

إن هذه العملية تجري بطريقة مغايرة تماما في الاقتصادات المتقدمة، فنضوج الأنشطة الاقتصادية وتنوعها في تلك الدول يفضي إلى تنوع الإيرادات العامة، ويجعل اتجاهات النمو الاقتصادي هي التي تحدد حجم الموازنة العامة واتجاهات العجز والفائض فيها، ومن الطبيعي ان تفضي حالة التنوع الاقتصادي تلك إلى تنوع الإيرادات العامة، ووجود التناسب في المساهمة النسبية للقطاعات والأنشطة الاقتصادية في الناتج المحلي وفي الإيرادات العامة. 

وفي ضوء تلك الحقائق يمكن أن القول، إن حالة الاختلال الهيكلي المستدام الذي يعيشه الاقتصاد العراقي والموازنة العامة في العراق، يعود في جانب الإيرادات إلى هيمنة الايرادات النفطية، في مقابل ضعف الإيرادات غير النفطية، اما في جانب النفقات فتعود إلى هيمنة الانفاق الاستهلاكي الجاري على الانفاق الاستثماري، ما جعل الموازنة العامة بعيدة عن اهدافها الاقتصادية، كما أن نمو الناتج المحلي الاجمالي المتأتي من نشاط النفط الخام، قد أدى إلى ضمور بقية الانشطة الاقتصادية، ودفع الاقتصاد العراقي نحو المزيد من الهشاشة والتشوه البنيوي. 

وقد تفاقم هذا الاتجاه نتيجة للتوجه الريعي للحكومات المتعاقبة بعد عام 2003، الذي كرس حالة الاعتماد على الإيرادات النفطية وزاد من تبعية النمو الاقتصادي للتقلبات في اسواق النفط الخام، وهذا ما يفسر سبب تعرض الاقتصاد العراقي إلى مجموعة من الانهيارات والصدمات المزدوجة والمركبة خلال العقدين المنصرمين، فبعد أن تبنت السياسة المالية نموذجا مالياً يرتكز على مثبت احادي يتمثل بسعر النفط التخميني، تم بموجبه تحديد حجم الإيرادات الفعلية النفطية نسبة إلى الناتج المحلي الاجمالي، إن اعتماد هذا المبدأ افقد الموازنة العامة المرونة والقدرة على مواجهة الصدمات الخارجية وزاد من هشاشة النمو الاقتصادي في العراق، بعد أن أدى التقلب في الإيرادات النفطية، إلى فقدان السياسة المالية لتقنيات الاستقرار التلقائية التي يفترض أن تعمل في مثل هذه الظروف كما هو الحال في الاقتصادات المتقدمة. أما في العراق، فإن تصلب المثبت الاحادي وخلوه من الآليات الديناميكية التي تؤثر في تدفق الإيرادات نحو الموازنة، قد دفع نحو مسايرة النمو والدورة الاقتصادية لدورة الموازنة العامة ذات الامتداد الخارجي، فعندما ترتفع الإيرادات النفطية يرتفع معدل النمو الاقتصادي، وسيكون هذا الارتفاع على شكل فقاعة نمو- لكونه لا يعبر عن وجود زيادة في النشاط الانتاجي غير النفطي- حدثت بفعل حقن الناتج المحلي بالإيرادات النفطية، التي افرزتها صدمة العرض الموجبة الناجمة عن ارتفاع اسعار النفط، بالمقابل ينتكس النمو الاقتصادي عندما تتراجع إيرادات النفط بسبب صدمة العرض السالبة الناجمة عن انخفاض اسعار النفط. 

إن هذه المسايرة تعكس بوضوح ارتفاع درجة الانكشاف الاقتصادي في العراق وارتهان النموذج التنموي لتقلبات الأسواق النفطية، وقد تفاقم هذا الاتجاه نتيجة للتوجه الاستهلاكي للسياسة المالية، الذي فضل الاستهلاك على حساب الانتاج والاستثمار، وضحى باعتبارات التراكم واعتبارات الاستقرار والنمو الاقتصادي المستدام، التي تتطلب الاهتمام باعتبارات التنويع الاقتصادي، فضلا عن الاهتمام بتنويع الإيرادات غير النفطية، وبفعل هذه السياسات تحول العراق إلى حاضنة ريعية استهلاكية ضعيفة الإنتاج لا تقوى على البقاء الا في ظل استمرار الاستيراد.

إن أي توجه للإصلاح الاقتصادي ينبغي أن يتجه نحو تبني سياسة مالية ذات توجه انتاجي يهدف إلى تعزيز مساهمة الايرادات غير النفطية، من خلال تنشيط دور قطاعات الانتاج غير النفطي لتعزيز اتجاهات التنمية والتنويع الاقتصادي. يستلزم نجاح هذا التوجه وجود التكامل والتنسيق بين السياسات الاقتصادية المختلفة للاتفاق على منح الأولوية للهدف الستراتيجي الرئيس المتمثل بالوصول إلى حالة النمو الاقتصادي المستدام.