الشعر في ملحمة الطف بين السرد المتداول واستنطاق الهوامش

ثقافة 2023/08/24
...

  عادل الصويري

رغم المدة الزمنيَّة الطويلة التي استمرّت بها الكتابة الشعرية لملحمة الطف؛ إلا أن هذه الكتابة فنيّاً عانت من بعض المشكلات، نتيجة إغراقها في السرد المتداول البعيد عن الاشتغال الإبداعي عدا بعض النصوص التي دخلت إلى عمق تفاصيل الملحمة، وحاولت بث الرؤى الجديدة فيها. ويمكن إيجاز مشكلات قصيدة الملحمة الكربلائيَّة بما يأتي:

أولا: قصائد لم تفعل شيئاً سوى ترجمة الإمام الموجود في المدوّنات الفقهيَّة ووضع الترجمة في قوالب إيقاعيّة، وبذلك تمَّ نسف الرؤية. وهذا النوع في القصائد يمكن أن نقول عنه (قصائد عن الحسين وليست فيه) فنتخيل الشاعرُ خطيباً بوزن وقافية.

ثانياً: الاسهاب في «عرقنة» الإمام الحسين شعريّاً بجعله عراقيّاً كونه دُفِنَ في أرض عراقيّة. مثل هذا التوجه يبدو مقبولاً لفترة مؤقتة تتعلق بالكبت الذي عانى منه العراقيون؛ بسبب الاستبداد والتسلّط؛ لكن أن يستمرَّ بعد عشرين سنة فهذا يؤشر إلى خلل في نمط التفكير، وتحجيم لقيمة الرمز الحسيني، ويبتعد عن القيمة الإنسانيَّة العليا للإمام الحسين (ع).

ثالثاً: قصائد تقارب الرمز الحسيني مع رموز ثوريَّة ارتبطت بالايديولوجيا. هذا المسعى نجده عند أدباء

اليسار.

ولعبور هذه المشكلات؛ والانطلاق إلى آفاق قصيدة حديثة تحافظ على قيمة الرمز؛ لا بدَّ من الالتفات إلى الهوامش التي جاورت المتن الحسيني، والتي تحرّض على التأمّل واكتشاف ما تمَّ السكوت عنه سابقاً.

 الشاعر علاوي كاظم كشيش جاورَ هامِشَ الطريقِ إلى كربلاء، وهو هامش ذكي يتشظى إلى عدة صور ومشاهد واقعيّة وتأمليّة، تأخذ طاقتها من عناصر الطبيعة كالنخيل والماء، ومن الزائرين الذين تكدّست بهم. ومن خلال هذه العناصر يأخذ النصّ طاقته التعبيريّة عبر الكلام النثري والإيقاعي. يقول علاوي مستلهماً هواجسَ المسافرين إلى كربلاء:

«حكمتُنا ينقُرُها الحمام، ويطيرُ ليغسلَها بنهرِ الغياب. نحنُ الظاعنينَ أبداً، والطاعنينَ في الأساطيرِ، أتْعَبْنا الوجد في الطريقِ إلى كربلاء. يا نَهرَ وحدتِنا، خذ تمائمَنا جرحى، نكتُبُ في صُحُفِ العطشِ راياتِنا. نمضي، وحينَ نتعبُ، يرشدنا دمٌ وبوصلةٌ من حُطامِ الساعات. أطفالُنا، قلنا لهم: دعوا الذاكرةَ تُفْلِتُ من أغانيكم، واحلموا أن تتزوّجَ الأشجارُ على مداخلِ كربلاء. يا بنات يا عذارى مَوِّجْنَ السوادَ على الخريطة، من أجل خضرةِ الدم»

ومن خلال هذا المقطع النثري نستطيع أن نحصي هوامش كثيرة التقطها الشاعر، لعلَّ أهمها هامش الوقت المتحطّم والمتلاشي، فضلاً عن هامش الاحتفال بخضرة الدم الحسيني الذي صار له أن يعقد قِران الشجرِ على طريق كربلاء.

كما تعتبر الدراما الشعريّة، وما تتطلبه من حضور الصراع في نصّ الملحمة، من متطلبات عبور تلك المشكلات الفنيّة. والدراما الشعريّة ظهرت في زمنِ الكتاباتِ المسرحيّة الاغريقيّة التي تعاطت مع الأساطير. وحضر الشعرُ فاعلاً رئيساً في الدراما الشعريّة في كتابات (إليوت) وخصوصاً في مسرحيته (جريمة قتل في الكاتدرائيّة)، في القرن التاسع عشر.

وفي العالم العربي، حضرت الدراما الشعريّة، وخصوصاً في تدوين واقعة كربلاء في مسرحيات شعريّة مهمة من أبرزِها (الحسين ثائراً الحسين شهيداً) لعبد الرحمن الشرقاوي، و (ثانيةً يجيءُ الحسين) و (الجائزة) لأستاذنا الراحل الشاعر الكبير محمد علي الخفاجي. وكل واحد من هؤلاء اشتغل على هامش أو ثيمة محددة،  فالشرقاوي أخذ ثيمة (الكلمة) وبنى عليها حوارَهُ الشعري، أما محمد علي الخفاجي فقد اشتغل في (ثانيةً يجيءُ الحسين) على البعدين الواقعي والغيبي في حواريّة محمد بن الحنفية مع الحسين أخيه غير الشقيق.

في قصيدةِ (مُدَوَّنة السهم التائب) يعمل الشاعر حسن سامي على أنْسَنَة السهم الذي استقرَّ في نحر رضيع الحسين، بحيث تكون له تداعيات نفسيّة، وتظهر عليه علامات الندم، ليمارس طقساً تطهيريّاً فيرى السهمُ أن المسافة بين لحظة انطلاقه من القوس، وحتى وصوله إلى نحر الرضيع حيزٌ من الدهشة المطعونة بمبررات غلب عليها الارتباك.

يقول حسن سامي:

بيني وبينَكَ حَيِّزٌ مِنْ دَهْشَةٍ... ومسافةٌ محسوبةٌ من فِضَّةِ

ما بينَ خوفِكَ بينَ خوفيَ برزخٌ... كيفَ استطعتَ إدانتي في نَظْرَةِ

ثم يرتفعُ الصراع الدرامي حين يشرحُ السهمُ للرضيعِ اللحظات التي سبقت اتخاذ القرار بأن يطلقَهُ حرملةُ من سهمِهِ بعد أن اختلف أفراد الجيش بين من يقول اسقوا الرضيعَ الماء وبين من يقول لا تسقوهُ، ثم يصل إلى النتيجة المخزية بعد ذبحه الرضيع:

وَنِزاعُ قَوْمٍ، ساخنٌ، إنْهاؤُهُ... تصويبةٌ مأثومةٌ، يا ورطتي

إقْطَعْ نِزاعَ القومِ قالَ خبيثُهُم... فَقَطَعْتَ حَبْلَ اللهِ مِلْئِيَ خِسَّتي

مِنْ جيدِكَ المائيِّ أَخْرُجُ ظامئاً... والخِزْيُ يسقيني بِأَرْذَلِ شُرْبَةِ

أمّا الصراع الدرامي الشعري الذي اشتغل عليهِ الشاعر سجاد السلمي في قصيدته (آخرُ الآتينَ من رحمِ الضوء) فَهو صراع القاتل الأصلي (يزيد)، إذ قدمه الشاعر وكأنّه مريض نفسي استقر على القلق والهيجان، بل ويُحسب للشاعر أنه جعل ثيمة القفز من موضوع لآخر بين أبيات القصيدة كدليل على اضطراب شخصيتها الرئيسة التي تريد أيَّ أحد أن يستمع لانفعالاتها واضطراباتِها، كما أنَّ الشاعر قدَّم لقصيدته بمقدمة تنتمي لمقدمات النصوص المسرحيّة، إذ شرح لنا في المقدمة حالة يزيد المتكئ على عرش مهشّم الجوانب ناظراً إلى انعكاسِ صورتِهِ في مرآة أقصى الغرفة، ثم تبدأ القصيدة بطموح يزيد وصدمته من النتيجة:

لملمتُ أشباهَ الرجالَ لأُقْتلَه/ فَأَتَوا بآلافِ الورودِ مُكَمَّمَهْ 

وَمَسَخْتُ وَعْيَ الماءِ عن إدراكهِ/ وَمَنَعْتُ عنهُ الأمنيات لأرغمَه

من المطلع مباشرة انتقل إلى ثلاثيّة الماء/ الوعي/ الإدراك، وهنا يبرهن الشاعر على قصديَّة اضطراب الهامش الذي اختارَهُ، فالماء قرآنيّاً هو (كلّ شيءٍ حي) لكنّه هنا ممسوخ الوعي والإدراك بفعل عملية تسطيح العقول التي تمارسُها الأنظمة المستبدّة. ثم تستمر القصيدة حتى يبلغ الاضطراب أعلى الدرجات حين يقول يزيد:

أنا كُلَّما حاوَلْتُ أن أدنو إلى عاشورِهِ، أجدُ الجهاتِ مُلَغَّمةْ 

لو كان الأمر بيدي لاخترتُ أن يكون هذا البيت ختام القصيدة؛ لأنَّه الخلاصة النهائيّة للاضطراب، ولجعلتُ كل الأبيات التي تلته قبله بنفسِ تسلسُلِها حتى وإن تشظت في رؤيتِها، فالقصد هو اضطراب المتحدث، إذن لا بأس باضطراب الأبيات كترجمة عملية لاضطراب الشخصية الساردة.