شغف الحريَّة يغزو طقوس الحزن في بلاد الأسكيمو

ثقافة 2023/08/26
...

 رنا صباح خليل

تضعنا رواية (إليزا القلعة) لغابرييل روا والمترجمة من قبل محمد عبدو النجاري أمام منطقها الفني الخاص بها، هذا إذا اعتبرنا أن لكل عمل روائي منطقه وكيانه ومنظوره وأسئلته وخصائصه الفنيَّة الخاصة به، فرواية (إليزا القلعة) لها من بهجة السرد والوصف وحيويته ما يضعها في قائمة الروايات المتميزة التي تستند إلى منظور جمالي يعتني باللغة والوصف ويجعل منها عنصراً أساسياً، إذ لا يتغير في بنيتها السردية تقديم عنصر التشويق والسرد الرتيب ومواكبة الأحداث بقدر ما تحتفي بالمشاهد الوصفية التي لها أكثر من معنى ودلالة، في عوالم قرية (فورـ شيمو) الأسكيموية ومميزاتها الطبيعية في جبال القطب الشمالي بقممه المسننة وبريته بما فيها من خلجان بحرية ضيقة وأودية عميقة جميلة المنظر وحياة ساحلية بحرية تحدها الحشائش القليلة.

في مطلع الرواية فيض من البوح الآسر المدهش الحزين، حيث في البدء، كان الألم باقياً يرافق بوح السارد الراوي المشار إليه في الأحداث، يهمس لنفسه أنَّ الألم يعتد بنفسه في سرمديته مع باقي الموجودات متمثلاً ذلك بنقل السيدة (ديبورا) إلى المشفى للمعالجة في القسم الجنوبي من بلادها وهو المكان الذي يحلم به جميع سكان الأسكيمو لما فيه من خدمات وطريقة حياة أبسط وأكثر 

فاعلية.

وما لا نختلف عليه أنَّ الخلود هاجس الإنسان وقلقه، وغايته التي لا تُدرك، وأمنيته العصيّة على التحقيق، ولذلك ظلَّ الإنسان رافضاً لفكرة الموت والفناء، مدفوعاً بغريزة البقاء، أو بنرجسيته التي طالما صوّرته مختلفاً عن بقية المخلوقات ومتعالياً عليها؛ فعندما كان يرى غيره يموت ويذوي ويتحلل في نظام الطبيعة، اخترع لنفسه أسطورة الخلود، والحياة ما بعد الموت، وابتكر فنون التحنيط، ودفن الميت بأبهى صورة مع مقتنياته الشخصيَّة، ولكن ما نراه مع سكان الأسكيمو وما حرصت الروائية على توظيف أسسه روائياً هو فكرة الاندفاع للموت دون استجابة للحياة بحسب معتقدات فلسفية كانت تسيطر على مفاهيم أولئك الناس، فقد كانوا يتركون الكبير في السن في كوخ منعزل عندما يمر بالشيخوخة ويتعب جسدياً؛ لينتظر لحظة موته وما كان مفارقاً ومستهجناً من قبل كبار القرية هو نقل السيدة ديبورا للمعالجة في مشفى بعدما مرضت وغير ذلك من أساليب معيشية أتقنت الروائية صياغتها ونقلها المترجم لنا ببراعة وإتقان يحسب إليه.


ما بين الوصف والسرد والاشتغال الروائي

يقول "جينت" إنَّ الوصف هو عملية تشخيص للأشياء والشخصيات"(1) والمقصود بالتشخيص بث الحياة فيها حتى تتردد حاضرة في الأذهان، وهو في هذه الرواية يضطلع بدور تشييدي يعمل إلى جانب السرد والحوار في مهمة بناء النص الروائي لتشكيل الفضاء الذي يحتضن الشخصية والحدث، مع فارق نسبي في التوظيف، ومن هذا المنطلق التلاحمي بين مستويات اللغة الروائية نجد أنَّ الوصف والحوار يقفان إلى جانب السرد في عملية إخراج النص روائياً إخراجاً يتناسب والجنس الروائي وأبعاده الثلاثة، خاصة بين السرد والوصف نظراً للتداخل الكبير بينهما، وهو تداخل تفرضه عملية الكتابة نظراً للانتقالات المتعددة ما بين أكثر من قصة وحكاية تكتنف السرد ويربطها خيط واصل يعود بمرجعيته إلى فكرة الحياة والموت وأسلوب الحياة لطبيعتين وبيئتين متجاورتين فسكان الأسكيمو يشغلون كل المنطقة الممتدة من ساحل ألاسكا Alaska الجنوبي، حول المنطقة القطبية الأميركية، وجزر غرينلند وبافن، والبرادور، كما تعيش جماعات منهم على الشاطئ السيبيري الآسيوي المطل على مضيق برنغ، فأخذ الوصف على عاتقه المقارنة بين صعوبة حياة الأسكيمو ورفاهية حياة المنطقة القطبية الأميركية ذلك أنَّ الخصائص البنائية التي يمتلكها الوصف تبرز مبدئياً سهولة تمييزه عن السرد، بالاستناد إلى مقياس مرجعي آمن مفاده أنَّ الوصف يصور الأشياء والسرد يصور الأحداث، أو مقياس مورفولوجي يشير إلى أنَّ الوصف يستعمل النعوت والسرد يستعمل الأفعال(2) ولذلك كانت من مهام الوصف الأساسية تناول مشهدية الحياة ببيئتها الفقيرة المعتمدة على صيد حيوان الرنة والدب القطبي وبعض الأسماك والاعتماد على مزروعات بسيطة تستخدم للغذاء والدواء في بيوت صنعت من الجليد وملبس صنع من جلود الحيوانات التي يصطادونها، أما ما جعلنا نتابع خط سير الرواية ومعرفة أحداثها التي تتبنى إبراز الشخصيات كي يقوموا بأدوارهم في تنمية الحدث فهذا ما قام به السرد ليقدم لنا أهم شخصية في الرواية وهي (إليزا) التي تبنت عقد المقارنة بين الحياتين آنفتي الذكر، بعدما أنجبت طفلاً من شاب أميركي كان من ضمن إحدى مفارز الجيش الأميركي المتقدمة إلى (فورـ شيمو) القرية المحاذية لنهر (كوكسواك) بعد أن تعرض لها بشكل مفاجئ من بين الأشجار المحاذية للنهر وأحبت فيه فكرة أن يكون وجوده بمثابة تكملة لفلم شاهدته في السينما، وأنجبت منه ابنها (جيمي) دون أن تتعرف عليه جيداً أو تتعرف على اسمه حتى، وبعد ظهور شخصية الطفل في الرواية استطاعت الروائية أن تجعلنا نعيش بداخل هذه الرواية، بحيث أنها نجحت في أن تنسق بين الماضي الذي عاشته إليزا، وتلك الصعوبات التي واجهتها بسبب وضعها المعيشي المزري وهي تعتني بطفل من دون أب وعليها أن توفر له حياة رغيدة، وكذلك الألم الذي عاشته بسبب خوفها من عدم إحكام سيطرتها على طفلها وتمكنها من تنشئته وهي تلبي طلباته كلها غاية في تدليله، إلا إذا رجعت للقرية التي ولدت وعاشت فيها هي كي يكون شبيهاً بها وليس تابعاً لجينات والده وحياته المرفهة ولذلك أخذت ابنها ورحلت إلى الضفة المواجهة لنهر كوكسواك طلباً لحريتها بعدما وجدت مضايقات من قريتها وتدخلات في طريقة تربيتها لابنها وذهبت لتستبدل طريقة حياتها وتساكن العجوز المجنون (يان) الذي ساعدها في تربية ابنها وفي تعليمه، إذ كان يحتفظ بالعديد من الكتب، وفي ذلك نزوع كبير نحو حياة التأمل والعزلة وملامسة الطبيعة بقسوتها وكرمها وعطائها وحكمتها.

غير أنَّ تلك الأحداث والأفعال تتطلب وجود سببية متمثلة في وجود محيط زماني ومكاني يؤطرها ومن ثمة ضرورة تحريك الشخصيات والأمكنة والأشياء، وهي العناصر التي تشكل الفاعلية المحركة لديمومة السرد الروائي الذي من سماته أنه لا يكتفي بالتسميات الخالصة ويهدد الليونة الهيكلية، لذلك كان العجوز يان يستذكر لإيليزا قريته أيام كانت تزهو بوجود شركة (لابيه دهودسون) فيأخذ الوصف على عاتقه توضيح الدور الذي تقوم به هذه الشركة التي تشتري من سكان القرية الفراء وتبيعهم الدقيق والشاي والضروريات من الأشياء التي يحتاجونها، ولا يخفى أنَّ هذه الأشياء والأمكنة والشخصيات التي تقوم بكل ذلك تتطلب من الروائي لكي تكسب خصوصيتها لغة متميزة أي إنها تتطلب لغة وصفية، ولذلك فإنَّ الرواية تشترط حضور الأمكنة والشخصيات والزمان، مع المحافظة على أن يكون الوصف فيها خادماً لهذه العناصر. 


الهوامش: 

1ـ بنية النص السردي، حميد الحمداني، 1993، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص87. 


2ـ بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، 1990، بيروت، ص178.