الكتابة من أجل الخسارة

ثقافة 2023/08/26
...

 فدوى العبود *

 

أن تكتب... يعني أن تكون ابناً للخسارة وبعض الأبناء يتفوقون على آبائهم، بعض الكتّاب سيحدثونك عن النجاح. لا تصدق أكاذيبهم إنهم يقولون ذلك بنوايا حسنة. في لحظة الربح ليس من اللياقة أن نتحدث عن الخسارة

لا تصدق تهويمات الكتاب إنهم يتمتعون بالكياسة ولا يتحدثون عن خيباتهم ولحظات خذلانهم، فمن يريد أن يتحدث عن الخذلان!

فازت آني آرنو بجائزة نوبل، وذلك رائع حقاً، أُعدت ملفات عنها، قراءات كثيرة، ترجمات وعروض، كل كلمة تلفظت بها أصبحت ترند ثقافي على وسائل التواصل، إذا سعل فائز تتولى دار نشر عربية ترجمة سعاله، انظر صورتها تتصدر صفحات الكتاب. لقد ابتسم الحظ متأخراً نعم، لكن أتى. 

هل كنا لنسمع بها كقراء أقصد. هل كنا معنيين بتجربتها، لماذا نترجم الأدب إذا لم يكن لقيمته الأدبية. وهل القيمة الأدبية تستمد من الجائزة وحدها.

هذا يجعل السؤال التالي مشروعاً، هل نهتم بالتجربة البشرية؟ أم بالنماذج التي التقت الحظ والشهرة على أحد مفارق الدروب!

إن افتقدت إلى أسماء: تذكّر سقراط وسم الشوكران، جنون نيتشه وعزلته، قطع أطراف الحلاج، وقتل ابن رشد، هذه عينة من أمثلة كثيرة خالفها الحظ في زمنها.

يبقى الكتاب في غياهب النسيان، إلا أن يواتيه الحظ، وهذا يجعل الكتابة بحد ذاتها مشروعًا لا يهم سوى مبدعه، لا أعتقد أن العالم سيزيد كوكبًا بك ولا سينقص ذرة باختفائك، فمن كان سيلتفت لآني آرنو، أو للويز غلوك ولأعمالها إلا فيما ندر لولا نوبل!

حين فارق الحظ سيليفيا بلاث في الحب والشهرة وتحقيق الذات، جعلت انتحارها شكلاً من أشكال الحظ، إن موتها ما يجذب القراء، فشروط شهرة الكاتب هنا تأتي عبر تراجيديـــّة قدره.

 هذا هو الكاتب وهذا قدر الكتابة.

هذا لا يلغي أن الكتابة تعمل بالضد من الشهرة، تبدو وكأن لها كيانــــًا مستقلاً، الشهرة انهمام بالوجود، والكتابة انهمام بالزائل، الكتابة تحرِّر، الشهرة تأسر، الشهرة ثقل، الكتابة خفة. لا يوجد بين الشهرة والكتابة من رابط سوى الحظ الذي يُخرج الأعمال من الظلمة للنور وقد يأتي الأخير متأخراً وقد يأتي بعد الموت. 

في نصه المؤثر يكتب اندرسون الحكاية التالية: رآها الشاعر تمر بسرعة، وبسرعة جرى وراءها واشتكى:

 -لا شيء لي أنا ؟ لقد ميزت شعراء كثيرين أقل مني وأنا متى يأتي دوري؟

ودون أن تتوقف نظرت الشهرة إلى الشاعر بازدراء وأجابته ضاحكة، ومسرعة الخطو:

- في غضون عامين بالضبط، وعلى الساعة الخامسة زوالاً بمكتبة كلية الفلسفة والآداب سيفتح صحافي شاب أول كتاب نشرته، وسيأخذ منه معلومات لإنجاز دراسة تبجيلية، أعدك أنني سوف أكون هناك.

- آه... سأشكرك كثيراً على ذلك.

- اشكرني الآن، فبعد عامين لن تكون هنا.

يحاول الكاتب حماية نفسه من الشهرة، يقاوم يومياً ذلك الاغراء؛ لأنه يعرف أنها تحول الحياة إلى استعراض، أما الكتابة فتحولها إلى نبض فالكتابة تبدأ حيث تنتهي الشهرة وتنتهي حيث تبدأ الأخيرة. قد يلجأ بعض الكتاب إلى اللامبالاة وهي أفضل دفاع لحصانة الذات، رفض سارتر نوبل كموقف وجودي ونفسي، انتحر همنغواي بعد نيلها بوقت قصير. الشهرة لا تسعد ولا تفرح ولا تحرر. 

أن تكون مشهوراً لدى العامة، واحد من اثنين: إما تستعد لنهاية سقراطيـــّة، فالكتابة ليست تحالفات مع القدر بل تمزيق لستارة الجهل، الشهرة فيها شيء من الجهل؛ إنها أرض لا ثبات لها، والنسيان سمة البشر

 "ما يشهرك اليوم قد يقتلك غداً" 

إن نشوة الشهرة مضرّة بكبدِ الكتابة و رفقتهما لفترة لا تعني (صداقة حميمة)

لعل رواية العطر لباتريك زوسكيند قرأت بعدة طرق، ويمكننا الدخول إليها من باب الشهرة، الطفل الذي ولد تحت عربة تنظيف السمك، وسط الزناخة والأمعاء اللزجة للأسماك: إنه يريد ابتكار عطر فريد وحين يصنعه ينقض عليه الناس ويلتهمونه.

وحين تحدث الشهرة ويحدث ذلك مصادفة فإنها تأتي مخالفة للتوقعات، الشهرة عاصفة والكتابة شجرة، الشهرة ضفة والكتابة نهر، الشهرة غيمة لكن الكتابة مطر.

ثمة خطأ كبير في اتهام الفيسبوك ووسائل التواصل بقولبتنا، لقد أعطتنا الميديا ما نبحث عنه:

 "الانبهار".  لقد حاكت شباكها حول غرائزنا البدائية واستثمرت في أحط رغباتنا. 

لا أحد يريد أن يختبر صبر أيوب لكن الجميع يريدون أن يتجلى لهم الاله، ولا أحد يريد أن يكون اسماعيل لكن الكل يرغب بكبش فداء. 

كان نيتشه 1889  يسير نحو وشط المدينة حين رأى مدربــًا يسوط حصانـــًا بشدة برغم تعب وانهيار الأخير، اقترب من الحصان واحتضنه ثم بدأ في البكاء. بعدها توقف الحديث ولمدة 10 سنوات ويمكننا أن نقرأ في الصمت أن محاولاته قد توقفت. 

تعلمنا الكتابة ألا ننتظر الحظ ولا الشهرة، تعلمنا الزهد في كل شيء عدا الكتابة ذاتها....

يريدون أن يخبروك أن الحياة كانت كريمة معهم، لكن أحداً لا يريد أن يخبرك عمن خذله، عن الذين امتصوا منهم كل أمل، لا أحد يرغب بإخبارك عمن أفلت يده ومضى، لا أحد يجرؤ على أن يقول لك أن الحياة بخيلة حين تنتظر كريمة حين تدير ظهرك. 

 لأنهم لو تحدثوا عن صراخهم ومصارعة الأمواج سيبدون مثيرين للسخرية، لا تستمع إلى نصائحهم، ولا حتى نصيحتي، إنهم يخبرونك أن تتبع قلبك، صوتك الداخلي، لكن هذا إذا كنت تستطيع سماعه وسط حفلة الضجيج الكبرى 

اقرأ كتبهم وحواراتهم، إنهم يريدون أن يبدوا مثاليين ملهمين ومحظوظين، لكن أعمالهم تقول العكس، حين جاع أورويل لم يقل له أحد: هي أورويل العزيز تعال أطعمك 

لن يخبروك كيف أمضوا أوقات الوحدة، ولحظات الجوع والخيبة، إنهم سماسرة للحياة مندوبي مبيعات للوهم، وهم لا يختلفون عن القساوسة ورجال السياسة 

لا لنصائح الشيوخ، لا لنصائح الكتابة، الكي لا يؤلم إلا صاحبه، لن تنتظرك حبية على قارعة الطريق، ولن يقضي رجل خمسين عامــًا ينتظر امرأة حياته إلاّ في رواية الحب زمن الكوليرا..

إنهم يكتبون عما يفتقدونه، عما يخافون منه، عما يخشونه، لن يشعل أحد الشموع لأجلك، ولن يعجب صوتك كثيرين. حتى لو كنت نبياً، سيحاربونك كما قال أحدهم يوما عن ايزايل الليندي: يجب قطع رأسها.

قلة منهم من يرضون أن يكونوا أبناء الخسارة، قلة منهم ناموا جائعين مثلك أو وحيدين، القلة التي احدثك عنها انتحر نصفها فأصبحوا قلة القلة.... كن ابنـــًا للخسارة فأبناء الخسارة يربحون دومــــــًا...

*كاتبة سورية