اياد مهدي عباس
أهم ما يميز الدبلوماسية الناجحة هي قدرتها على حل الخلافات العالقة مع الدول الأخرى بالطرق الودية والوصول إلى المشتركات المقبولة، التي تعود بالفائدة للوطن والشعب، وذلك من خلال التفاوض المثمر والناجح، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية، التي تتعلق بحفظ الحدود وعدم التفريط بشبر واحد من أرض الوطن، مهما قست الظروف ومهما علت الضغوطات.
وفي ضوء تلك المعطيات نستطيع التعرف على طبيعة العمل الدبلوماسي، الذي كان سائداً في العراق على امتداد اكثر من أربعة عقود مضت، ومعرفة حجم الخسائر، التي تعرض لها العراق نتيجة فشل الدبلوماسية العراقية في تلك الفترة، من خلال تكبيل العراق باتفاقيات خاسرة مع دول الجوار.
ففي زمن النظام السابق كان العمل الدبلوماسي يمثل انعكاساً لسيكولوجية النظام، فكانت طريقة حل المشكلات والنزاعات مع دول الأقليم والمنطقة تفتقر إلى الرؤية السياسية السليمة، فإبراز العضلات وإعطاء التنازلات هي السمة الغالبة على سلوك النظام السياسي آن ذاك، فحينما أراد النظام حل مشكلة المعارضة الكردية في شمال العراق والقضاء عليها، ذهب للتفاوض مع شاه ايران بهدف إيقاف الدعم الايراني عنها، فكانت نتيجة تلك المفاوضات توقيع العراق اتفاقية الجزائر مع الجانب الايراني في عام 1975، والتي نصت على تنازل العراق عن نصف شط العرب لإيران، فأصبح شط العرب نهرا مشتركا بين العراق وايران بعد أن كان عراقيا بالكامل.
فقال شاه إيران في حينها للمعارضة الكردية عندما زاره وفداً منها برئاسة ملا مصطفى البرزاني.
(الآن انتهت اللعبة، لقد اعطانا صدام ما كنا نحلم به).
وفي تطور دراماتيكي قام نظام صدام في 4 ايلول من عام 1980 ومن جانب واحد إلغاء تلك الاتفاقية، وزج العراق في حرب طاحنة مع الجارة ايران دامت ثماني سنوات ذهب ضحيتها مئات الالاف من أبناء الشعب العراقي مع تدمير البنية الأقتصادية للعراق وإضعاف قدراته البشرية والطبيعية وإغراقه بالديون الخارجية، ثم بعد تلك الخسائر الجسيمة عاد النظام للاعتراف بذات الاتفاقية مرة اخرى، وفي أثناء تلك الحرب وهب النظام السابق للمملكة الاردنية أراضيَّ عراقية حدودية، ضمن منطقة مثلثة الشكل تُعرف بمنطقة إعنزة بعمق 70كم وبمساحة تقدر ثلاثة آلاف كيلو متر مربع أي ما يعادل خمسة اضعاف مساحة دولة البحرين تقريبا، وذلك تثميناً منه لمواقف الأردن ومساندتها للعراق أثناء حربه مع ايران! ولم يحدث ذات مرة في تاريخ العراق، بل وحتى في تاريخ المنطقة إن رئيس دولة ما وهب جزءا من أرض بلاده لدولة أخرى، تعبيرا عن شكره اياها فكانت هذه سابقة لم تحدث في المنطقة والعالم.
وبعد غزو صدام للكويت في 2 آب عام 1990 اصبحت مساحة الكويت 17818 كم مربع، بعد أن كانت أقل من ذلك بكثير قبل الغزو، بسبب اتفاقية خيمة صفوان وتسليم العراق للأمم المتحدة، حيث نصت هذه الاتفاقية على ترسيم الحدود مع الكويت، ولعدم حضور ممثلين عن الجانب العراقي في عملية الترسيم، تم الترسيم من جانب واحد، ما ادى ذلك إلى خسارة العراق مساحات كبيرة وغنية من ارضه لصالح الكويت.
وفي ما يخص اتفاقية العراق مع الجانب التركي سمح نظام صدام للجيش التركي التوغل داخل الاراضي العراقية لمسافة 20 كم، بحجة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني حسب الاتفاقية المبرمة بين الطرفين، والتي ما زالت القوات التركية تتخذها ذريعة للتواجد في الشمال العراقي.
ما اريد قوله إن مساحة العراق تقلصت بشكل كبير نتيجة سياسات النظام السابق المتهورة، وبسبب تلك الاتفاقيات غير المدروسة والهبات، التي وهبها النظام لدول الجوار، أما ما يثار اليوم من تساؤلات ومشكلات حول الحدود بين العراق ودول الجوار، خصوصا مع دولة الكويت مرجعها إلى السياسات الفاشلة للنظام السابق، ومن باب الإنصاف لا الإطراء نستطيع القول إن العراق بعد عام 2003 لم تتنازل حكوماته المتعاقبة عن سنتيمتر واحد من أرضه لأي دولة من دول الجوار، رغم ضعف هذه الحكومات وعدم تماسكها وغياب الجانب الدبلوماسي فيها، أما ما حصل من تصعيد إعلامي حول اتفاقية 2013 بين العراق والكويت، فهي لاغراض انتخابية ليس إلا، فالاتفاقية تتعلق بتنظيم الملاحة بين العراق والكويت في خور عبدالله، وليست ترسيم الحدود والأعضاء الذين شاركوا في صياغة هذه الاتفاقية، هم أنفسهم من ينتقدها اليوم لأغراض التسقيط السياسي والدعاية الانتخابية، بسبب انعدام الوطنية وشرف الخصومة لدى معظم الطبقة السياسية الموجودة حاليا وحل محلها المصلحة الحزبية والشخصية وعدم الشعورهم بالمسؤولية تجاه قضايا الوطن المصيرية.