نهايةُ الكتابة

ثقافة 2023/08/27
...

 غافين هاندريكس
  ترجمة: د. فارس عزيز المدرس


تناقش هذه الدراسة وجهة النظر القائلة بأن التفكيك ليس نقداً للنظم المدافعة عن النصوص، بل وسيلة لفك الارتباط بين النصِّ وخارجه، والتأشير على النقاط العمياء فيه. المقال معارضة للبنيوية، ورؤية كاتب المقال لا تعفي التفكيكية من المساءلة عن قضايا طرحتها. (المترجم).   تم تطوير النظرية التفكيكية في سبعينيات القرن الماضي، وهي نظرية أتي جزء كبيرٌ منها رد فعل على البنيوية والنظام الأكاديمي، والفكر القمعي الذي روج تفسيراً فريداً للنص الأدبي والفلسفي. والتفكيك يعمل - بحسب دريدا - على تحليل صارم للغة. وأكثر ما يميّزه مفهومه عن النص، ولا يناقش دريدا مِن أجل معارضة البنيوية، بل يتحداها من مركز المعنى الذي تقدمه ثنائية (الكلام والكتابة)؛ والتي من خلالها ادعى البنيويون الكشف عن المعنى الخفيِّ في اللغة.

أصرَّ دريدا على أنَّ التفكيكَ ليس نقداً؛ بل وسيلةً لقول أشياءٍ جديدةٍ عن النص، وتُظهر قراءةُ دريدا لـ جان جاك روسّو وضوحَ العلاقةِ بين الكتابة واللغة، وبالتالي يمكن اعتبار الكتابة “كياناً خطيراً” يحِلُّ مَحِل الكلام. ومن هنا يُهتم دريدا بتفكيك المعارضة المفاهيمية، والأنظمة الهرمية للفكر، ويبحث عن لحظاتِ التناقض الذاتي في النص الذي يخون التوترَ بين الخطاب والمنطق.  
يرى درّيدا أنّ تفكيكَ الهياكلِ ليس عمليةً سلبيةً ولا تدميراً للهياكل الثقافية والفلسفية والمؤسسيّة التي تبدأ مِن النص، وكلُّ نظامٍ هو بناءٌ اجتماعي تمَّ تجميعه. ومِن هنا يبحث التفكيكُ عن الشقوقِ في النظام، حيث يخفي حقيقةَ عدم اكتمالِه وفشله في التماسك؛ ككلٍّ قائم بذاته.
 لا تثق التفكيكيةُ بالأنظمة؛ بل تطبّق عليها تأويلات الشك، وتتمُّ آليةُ اشتغالِها بعزْل عناصر النص عن بعضِها، وتشير إلى السلوك واللغة التصويرية وتفسِّر الإشارةَ بطرقٍ أخرى. إنها قراءةٌ متأنيةٌ؛ وإنْ كانت سلبيةً. وبهذا يقتربُ دريدا مِن النصِّ من خلال قراءةٍ مزدوجةٍ؛ ليس الغرضُ مِنها هدمَ القراءةِ التقليدية أو إزاحتها، بل لإثباتِ لحظاتِ التناقضِ الذاتي فيها.
ينظر التفكيكُ إلى اللغة على أنها مسرحيةٌ للاختلافات؛ تُنتِج ستراتيجيةً تمكّنُ المرءَ من اكتشاف الدورِ الذي تلعبه اللغةُ في تفكيرنا. واللعب لدى دريدا هو “اضطراب الوجود” الذي يتمثّلُ بالميتافيزيقيا التي يرتكِز حولها الفكر الغربي، ويرفض دريدا فكرةَ البنيةِ العميقةِ للنص، والنظرة الميتافيزيقية المبكِّرة لنيتشه بخصوص موت اللوغوس (الذي يُشار إليه في اليهودية والمسيحية)؛ بحجة تحرّرِ الإنسان مِن قيود العالم الآخر، ويؤدي إلى اكتشافِ قوة الخيال البشري في إعطاء المعنى؛ من خلال الفن والجماليات. وعلى الرغم من أنّ (اللوغوس) مات في الثقافة الغربية، إلا أنه حيٌّ في اللغةِ والنص.
يأخذ دريدا بوجهةِ نظر نيتشه الذي يأسف فيها بخصوص اللوغوس قائلاً: (أخشى أننا لم نتخلَّصْ من (اللوغوس؛ لأننا ما زلنا نؤمن بقواعدِه)، فاللغةُ على هذا لا تؤثِّر على الطريقة التي نفهم بها العالمَ فحسبُ، بل هي أيضاً تعبيرٌ واضحٌ عن الجوهر الأساسي للوغوس، وهذا جانبٌ تكوينيٌّ في تفكيك دريدا لمركزية اللوغوس الغربي.
ومن وجهة نظر دريدا كان للدال المتعالي (العقل الالهي) دائماً علاقةٌ خاصةٌ بوجود الغرب؛ إذ يدّعي أنَّ جميعَ الأسماء التي تتعلّق بالأساسياتِ تشير إلى وجودٍ لا يتغيَّر؛ وهذا ما يظهر في قائمةِ المصطلحات اليونانية ذات الصدى اللاهوتي والفلسفي. ويُظهِر موقفُ دريدا المتشكِّك الشذوذَ أو النقاطَ المظلمة في نموذج الإشارة الثنائية للبنيوية.
يصف علماءُ اللغةِ والأدب الدالَّ بأنه الشكلُ الذي تتخذه العلامة، و”المدلول” بأنه المفهومُ الذي تشير إليه، ويعتمد الدالَّ والمدلول على نظام الإشارة لإنتاج المعنى، لكنَّ دريدا يُعارض رؤيةَ سوسور (الكتابة هي علامة على الإشارة)، ويعترض على التقليد الذي يقدِّم وجهةَ نظرٍ حتميةٍ للدلالة؛ ويجعل مِن الكتابة ذات الطابع اللغوي الديناميكي ممكنا؛ فيشكّك دريدا في علامة سوسور التي تحفاظُ على التمييز بين الدال والمدلول. وهذا يترك البابَ مفتوحاً أمام التفكير بمدلولٍ قائمٍ بذاته، مستقلٍّ عن العلامة؛ ممَّا يعني أنّ كلاً مِن العلامة اللغوية والرابط بين الدال والمدلل تعسفيٌّ، لذا يلزمُنا استعراض أهمَّ أسسِ البنيوية التي عمِل دريدا على تقويضها.

  التأويل البنيوي للعلامة
مِن الأمور الحاسمةِ في مشروع دريدا إعادةُ صياغةٍ استراتيجية لعلم اللغة البنيوي، ويرى: أنَّ العلامةَ اللغويةِ ليست شيئاً واسماً، بل مَفهوماً وصورةً صوتيّة. وهو ليس الصوتَ الماديّ البحت؛ بل البصمةَ النفسيِّة للصوت، والانطباعَ الذي يتركه على حواسِّنا.
كانت البنيويةُ مؤثرةً في دراسةِ التقاليد الشفوية والفنون اللفظية، وركَّزت على بنية العنصر، وكانت جذابةً لقسمٍ مِن النقاد؛ لأنها تضيف مسحةً موضوعيةً على الدراسات الأدبية. لكنها تُخفي فرديةَ النصِّ والمؤلف؛ لأنَّ النصَّ وظيفةُ نظامٍ لا وظيفةُ فردٍ. بينما يرى النموذج الرومانسيُّ أنّ المؤلفَ أصلُ النصِّ. وتجادل البنيويةُ أيضاً بأنَّ أيَّ قطعةٍ من الكتابةِ؛ أو نظامٍ الدلالة ليس لها أصلٌ، والمؤلفون يسكنون هياكلَ لغويةً موجودةً مسبقاً؛ تمكِّنهم من صنع النص.
أصرَّ سوسور على أنَّ اللغة شبكةٌ تفاضلية للمعنى، والإشارةُ اللغوية ليست رابطاً بين الشيء والاسم، بل بين المفهوم ونمطِ الصوت (لدى المستمع)، ويستبدل المصطلحين “ الصوت والمفهوم” بـ الدال والمدلول؛ والإبقاء على مصطلح “علامة”. والدالُّ هو المكوِّن الصوتي المادي للإشارة، ويرى: أنه لا يمكن وضع علمِ اللغة إلا من خلال تبنّي نهجٍ متزامنٍ في التعامل مع اللغة بوصفها شبكةً من العلاقات البنيوية، ومِن الضروريِّ التمييز بين الفعل أو الكلام؛ والنظام العام للعلاقات المفصلة التي اشتُقت منها (اللغة). ولا يمكن أنّ توجد علاقةٌ طبيعيةٌ بين الدال والمدلول. فاللغة كيانٌ متأصلٌ في المجتمع؛ وهي صورُ الكلمةِ المخزَّنة في أذهان الأفراد، وهي ليست كاملة لدى أيِّ متحدثٍ فردي؛ لأنها موجودةٌ داخل المجموع فحسبُ، وهذا ما يرفضه دريدا.
يذكر ليفي شتراوس عن روسّو في كتابه: “مقال عن أصول اللغة”  بأنَّ فجرَ الكتابةِ كان بمثابة إشارةٍ إلى سقوط كلِّ من اللغة والمجتمعات البشرية؛ إذ جلبت الكتابةُ التفاوتاتِ الاجتماعية والتسلسلَ الهرمي، وطبقا لـ روسّو كان البشرُ قبل حدَثِ الكتابة يعيشون في مجتمعات قائمةٍ على الإنصافِ والمشاركة، ومع ظهور الكتابةِ أصبحتْ السلطةُ في أيدي القادرين على الكتابةِ والمعرفة فحسبُ.
إنّ تمييز ليفي شتراوس بين المجتمعات القادرة على الكتابة والمجتمعات غير القادرة عليها يرتكز على أساس تمييز سوسور الثنائي بين اللغة (الكلام بوصفه حضوراً)؛ والكتابةُ (بوصفها علامة وإشارة)، في حين ترى البنيويةُ بأنّ بنيةَ اللغةِ تنتج الواقعَ، والإنسان لا يمكنه التفكير إلا مِن خلال اللغة، وبالتالي فإنَّ تصوراتِنا عن الواقع تحدِّدها بنيةُ اللغة. ولا يأتي المعنى مِن الأفراد؛ بل مِن النظام المبنيِّ اجتماعياً. وهنا يرى دريدا ضرورةَ الفصلَ بين الكتابة والكلام؛ وفقاً لرؤية ليفي شتراوس المناهضةِ للتمركز العِرقي.

   نقد دريدا للعلامة والحضور
أخذ دريدا على البنيوية ربطَ معنى الإشارة بميتافيزيقيا الوجود الغربية، ورأى أنَّ موقفَ سوسور السلبي مِن اللغة المنطوقة - على عكس اللغة المكتوبة - يمكن عدّه بناءً خاطئاً للميتافيزيقا الغربية، واكتشف وجودَ تعارضٍ ثنائيٍّ بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة في قلْبِ ميتافيزيقيا الحضور، فالكتابةُ ثابتةٌ وسلبيةٌ وغير متجدِّدةٍ؛ أمَّا الكلامُ فقابلٌ للاختلاف، وإيجابي، ويشير إلى التمييز وغياب الدلالة أو تعددها .
ولمَّا كانت الفلسفةُ الغربية سمحَتْ لنماذجَ مجازية بالتحكُّمِ في مفاهيمها عن اللغة والوعي فقد رأى دريدا أنَّ هذه الافتراضات مِن «ميتافيزيقا الحضور» تثبت مفاهيمَ معينةٍ وتغيّبُ أخرى؛ بحسب ما تهوى، وتتعامل مع الكلام على أنَّه ثانويٌّ، أيْ بمعنى تغييب المتحدِّث وراء كلامه، ويرى أنَّ نقدَ نيتشه للميتافيزيقيا والنقد الفرويدي للوجود الذاتي، وادعاء هايدجر بتدمير الميتافيزيقيا عالقون إلى الأبد في حلقةٍ مفرغة؛ سببُها الحضور (حضور مفاهيم معيّنة وطمس أخرى). والفلسفةُ الغربيةُ سمحت لنماذجَ مجازية بالتحكم في مفاهيمها عن اللغة والوعي، دون محاولاتٍ نقدية جادة.
وميتافيزيقيا الحضور مصطلح استعاره دريدا مِن هيدجر؛ ويقوم على التمركز حول العقل (اللوغوس)، أو الذات أو الأنا أو الـ نحن؛ وطمْس الآخر الهامش، والغلبةُ دائماً للطرف الأول في هذه الثنائية (معقول - مفهوم/ الحقيقة - الأكاذيب/ الخير - الشر/ الروح، الجسد/ الكلام - الكتابة/ الثقافة – الطبيعة). لذلك يرفض دريدا فكرةَ الدالِّ المتسامي، أو المركز في بناءِ اللغة؛ لأنها تُثبِّتُ الاعتقاداتِ الخاطئة والسفسطة الغربية.
وعليه يجبُ على القراءةِ أنْ تحررَ نفسَها مِن مِحور الحضور، ومن الفئات الكلاسيكية للتاريخ ... تاريخ أفكارِ الغرب وأدبِه الذي يسجن النص. ولطالما كان تاريخُ الحقيقة انحطاطاً للكتابةِ وقمعها خارج الكلام. والكتابةُ وسيلة لإعادة بناء الكون الاجتماعي على وفق تصوراتِ الحضور واللوغوس، أمّا الكلامُ فهو الآخرُ المكبوت. هكذا ترى التفكيكيّة.