ابراهيم العبادي
تستعد قوى وكيانات وأشخاص بقوة لانتخابات مجالس المحافظات المقبلة، والمزمع إجراؤها في نهاية العام الحالي، مفوضية الانتخابات العراقية تواصل نشر المعلومات عن عدد الأحزاب والكيانات والشخصيات المنفردة المسجلة على لائحة الانتخابات، 281 كيانا وحزبا وما يزيد على 40 ائتلافا انتخابيا، وكلها تسعى إلى تسجيل حضور في المشهد الانتخابي سعيا لمزيد من الشرعية الانتخابية ورغبة في قياس حجمها السياسي والحصول على مواقع في هيكلية السلطات المحلية، وهي سلطات مهمة طالما منحت الأحزاب فرصا سياسية واقتصادية وتواصلية .
بداهة، تبدو الانتخابات المحلية (محافظات، بلديات) مرحلة مهمة في توسيع المشاركة السياسية، وتوزيع السلطات وادارة الناس لشؤون مناطقهم، هذا مبدأ شهير في الانظمة الديمقراطية، وفي العراق الذي يسعى إلى بناء الهياكل الحكومية وتوزيعها بنحو يوافق الدستور ويمنع تمركز السلطات، تبدو انتخابات مجالس المحافظات - بعد انقطاعها لعشرة اعوام، وبعد انتخابات عامة مثيرة للجدل أجريت عام 2021 - فرصة للقوى السياسية لقياس حجومها لدى الجمهور بين آونة واخرى واختبار مقبوليتها وشعاراتها ومساحة تأثيرها، الملاحظة العامة المسجلة حاليا، وهي ملاحظة انطباعية غير مقاسة علميا عبر استطلاعات رأي وقياس الرأي العام، هو البرود الكبير وضعف الاهتمام الجماهيري، قياسا بتحمس الاحزاب والكيانات والاشخاص بهذه الانتخابات، ودائما ما يثار هذا السؤال مع كل انتخابات تجرى في العراق منذ انتخابات عام 2014 التي سبقت اجتياح داعش لمناطق شمال وغرب العراق، لماذا تتضاءل مشاركة الناس في الانتخابات رغم تزايد عدد السكان سنويا؟، وما هو تفسير ازدحام الساحة الانتخابية بعدد كبير من الأحزاب والكيانات في غياب قواعد جماهيرية حقيقية وثقافة ديمقراطية فاعلة؟ وكيف للديمقراطية أن تنجح وتنمو وتستقر في العراق مع وجود هذا الكم الكبير من الوجودات السياسية، التي لم ترتق إلى مسمى الأحزاب السياسية العصرية المتوافقة مع متطلبات ومقتضيات الدولة الحديثة؟.
ابتداء لا ديمقراطية ناجحة دونما حياة حزبية نشطة وسلوك سياسي مقنن ونظام انتخابي شامل وصناديق اقتراع مصانة بعيدة عن التزوير، تعثر الديمقراطية يعود أساسا إلى جملة موانع وعوائق تشتمل على عدم الايمان بالديمقراطية، وضعف الالتزام بآلياتها وهذان سببان احدهما فكري والآخر سلوكي، يضاف لهما نقصان القدرة على انفاذ القانون وحماية صوت المواطن، ولكن قبل ذلك لا بد من التأكيد بآن أهم عوامل نجاح الديمقراطيات الناشئة، ومن ثم تطورها ونجاحها ورسوخها هو الثقة السياسية، الثقة التي تؤسس علاقة سليمة بين المواطن والناشطين والممثلين السياسيين، وهؤلاء الوكلاء أو الذين سيصبحون وكلاء لاحقا لا بد أن يكونوا أعضاء في تكوينات أو أحزاب أو جمعيات تمثل مصالح ومطالب الفئات الاجتماعية، إنها الأحزاب السياسية، التي تنشط في المجال السياسي، وتسعى إلى كسب ثقة الناس والحصول على تفويضهم والفوز بثقتهم وبلوغ السلطة باصواتهم، الملاحظ على الحياة السياسية العراقية تحت سقف الديمقراطية الناشئة بدستور عام 2005، إنها تخلو من وجود احزاب سياسية عصرية ذات برامج تتنافس مع نظيرتها في اطار سالم من العنف والاستقواء والتهديد والشعبوية والمال السياسي الفاسد، فقد تراجعت احزاب سياسية عراقية شعبيا وتقدمت قوى سياسية تكونت بعجالة وبضغط الدافع الانتخابي وواقع الانقسام الاجتماعي والاثني، ومع كل جولة انتخابات تزدحم الساحة السياسية بأحزاب صغيرة وتجمعات انتخابية تسمى كيانات سياسية جزافا، سرعان ماتتفتت أو تنقسم أو تندمج مع كيانات اخرى، ولحد الساعة لم تحتفظ قوى سياسية بأسمائها وعناوينها التأسيسية، إلا بشكل محدود، والغالب هو التوالد المستمر للكيانات والتحالفات التي يهيمن على ظهورها للوجود شخص فرد أو مجموعة أشخاص، يطمحون إلى المشاركة في القرار السياسي والتأثير في صنع السياسات واقتسام السلطة مع آخرين .
في هذا الواقع الماثل أمامنا، تظهر عدة مؤشرات ذات دلالة، المؤشر الاول، ضعف التمثيل الحقيقي لمصالح الجمهور، إذ إن عزوف الجماهير عن المشاركة في الانتخابات يعود إلى شعور المواطن بانه لا يعول كثيرا على من يدعون تمثيله مناطقيا وسياسيا وأيديولوجيا، وهو غير مستعد للتصويت لهم باريحية الا تحت ضواغط محددة ونتيجة اساليب تعبوية ودعائية مؤثرة، المؤشر الثاني؛ تدهور الأداء السياسي للأحزاب والكيانات، وتراجع خطابها السياسي نحو العصبوية والتحريض والمناكفة، واللجوء الصريح إلى الزبائنية وشراء الأصوات والذمم والهيمنة على الدوائر الانتخابية بأساليب القوة العشائرية والانتشار المسلح.
كانت نتيجة هذين المؤشرين أن أصبحت الانتخابات والمشاركة فيها فرصة لاستبدال أشخاص بىخرين، وليس مناسبة لتطوير الأداء، وتحسين الحوكمة وإحداث تغييرات ومردودات لصالح الجمهور.
غياب الانجاز الملموس، يؤشر في نفسه إلى تردي الحياة السياسية وانغلاق آفاق التغيير، وهذه تعكس بدورها افتقار الفضاء السياسي إلى القوى المجددة القادرة على قراءة الواقع وتفسيره والتنبؤ بمساراته، ووضع البدائل والحلول لمشكلاته المعقدة .
لقد كان العراق صدى للافكار السياسية القادمة من وراء الحدود، وكانت أحزابه الوظيفية والأيديولوجية والنخبوية تبشر بالغد الافضل، لكن هذه الاحزاب التي شاخ بعضها واندثر تراث البعض الاخر، أخلت الساحة لقوى جديدة لا تملك معايير ثابتة للحزبية السياسية، العراق اليوم ساحة لمن يمتلك المال والقوة لتصنيع السلطات تصنيعا، وفرضها على البيئة السياسية، فلماذا هذا التراجع المخيف في الحزبية العراقية؟
من يقف وراءه؟
من المستفيد منه؟
وكيف السبيل للخروج من هذه الدائرة نحو حياة سياسية سليمة فاعلة نشطة اجتماعيا ومقبولة معياريا؟.
لنا حديث قادم بإذن الله.