رزاق عداي
كان العراق موضع اهتمام بالغ من قبل مراكز القرار الأميركي دائماً، ففي السنوات الأخيرة من ثمانينيات القرن الماضي، وحصرا في الأعوام التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، أختير كعينة لتطبيق النظام العالمي الجديد، الذي تفردت بتعيينه وتسويقه أميركا، بوصفها الطرف الأساس في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق،
فبعد تفكك الأخير أصبح من الضروري تدشين مفاهيم النظام الجديد عالميا، وكان العراق يتمتع بكل المواصفات المطلوبة، فتمت دراسة الموضوع بكل عناية من قبل ستراتيجيي البنتاغون، ممن يسمون باليمين الأميركي الجديد في ذروة انتصار كبير على أيديولوجيا المنظومة الاشتركية (على رأسها الاتحاد السوفيتي السابق)، فكان هؤلاء الذين يسمون بصقور البنتاغون مساقين تحت خيلاء فوز دولي كبير، منحهم دافعا قويا في ابتكار مفاهيم كونية جديدة، كالشرق الاوسط الكبير، والفوضى الخلاقة، والديموقراطية الأميركية.
كل هذا كان في أجواء قطب دولي وحيد هو اميركا. أمّا العراق فكان بلدا ثريا بنفطه، يحتل جغرافية بالغة الأهمية، خرج توا من حرب طويلة، يبدو منهكا، ويرزح بمشكلات اقتصادية هي من تداعيات الحرب، وشعبه على قدر من الثقافة يتقبل الديموقراطية، على رأسه دكتاتور متهور لا يفتأ يقدم جل المسوغات لاحتلال بلده، كما أنه لا يتورع عن الهجوم على أي بلد يجاوره، ليعطي هذا مبررا سهلا لتحشيد العالم ضده، ناهيك عن شكوك في حيازة أسلحة دمار شامل.
كانت الماكنة الستراتيجية الأميركية قد سوغت وروجت موضوعة تحرير العراق، تأطرت لاحقا في قانون صدر من الكونغرس في
سنة 1998.
ثم ابتدأت قصة تحرير العراق لتنفذ في العام 2003، واهمٌ من يعتقد أن أمريكا ستعمل في المدى القريب على اسقاط النظام السياسي في العراق، فالنظام في تصميمه الاساسي الهندسي امريكي بامتياز، اما الجيران فقد امتدت اصابعهم لاحقاً، فهي (أي أمريكا) تقاتل بشراسة ضد من يسعى بهذا الاتجاه.
باعتبار أن العراق هو مرتكزها الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وهي من قدمت الكثير في سبيل إسقاط النظام السابق، حتى أنها اليوم تعترض على أي توسعة للعلاقات بينه وبين دول كبرى أخرى كروسيا وفرنسا والصين، وتحاول أن تتحكم في حجم التسوق التسليحي له مع بلدان أخرى، والأكثر من ذلك فالعراق اليوم هو من ضمن الأمن القومي الأمريكي، وإذا كانت قد سحبت قواتها منه في عام 2011 في فترة حكم أوباما، فلقد ربطته بموجب اتفاقيتين صارمتين مقيدتين، الأولى الاتفاقية الامنية والثانية وفق ما اطلق عليه باتفاقية الاطار الستراتيجي التي وقع عليها رئيس وزراء العراق الاسبق في عام 2008، والتي تضمنت الرعاية والإشراف على العراق على المدى البعيد.
وينبغي أن يفهم أن الستراتيجية الامريكية في اية حقبة لا تتجزأ، وفقاً لإرادة أي رئيس جديد، اذ ربما تكون للرؤساء بصمة ما في بعض النواحي، إلا أن الخروج عن الخطوط العامة لا يسمح له بمتابعة من المراكز والمؤسسات الكبيرة، فالعراق اصبح ضمن الاهتمام الأمريكي في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، وعندما بدأت الماكنة الفكرية الستراتيجية الأمريكية بضخ كم هائل من المصطلحات والمفاهيم التي تخص ستراتيجيتها الجديدة، والتي أزاحت النظام العالمي القديم، الذي كان يسمى نظام القطبين نحو نظام القطب الواحد الذي تتزعمه وتقوده أمريكا كقطب منفرد، كانت الديمقراطية الأمريكية هي واحدة من تخريجات الماكنة الفكرية الأمريكية.
التي تناسب انتصار الليبرالية على الاشتراكية حسب المفهوم الأمريكي، فكان اُريد تطبيقها هذه الديمقراطية عملياً وفق عينة واقعية، فكان العراق حاضرا ومستوفياً لكل الشروط المرغوبة، وكانت اليافطة الجاهزة القديمة، والتي استخدمتها كل الامبراطوريات الناهضة لاجتياح الدول الاخرى هي الرغبة في تحرير
الشعوب،.
منذ الاسكندر المقدوني ومرورا بنابليون والجنرال مود، اما امريكا فقد زادت عليها بالازمنة الحديثة بما اسمته بالدافع الأخلاقي، الذي أطرت به قصف مدينتي هيروشيما وناكازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية، واجتياحاتها لكثير من دول شرق اسيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
العراق اليوم يقف موزعاً ومهشماً في منطقة توازن لسياسات اقليمية مجاورة ودولية، في مقدمتها امريكا وجميعها تجد أن مصالحها تقتضي ان يبقى على ما هو عليه، اما التحركات العسكرية الأمريكية الاخيرة في المنطقة، فهي مساعٍ لتغير ديكورات ليس إلا.