حسن الخاقاني.. سرَّانيَّةُ البوح

ثقافة 2023/08/28
...

  د. نصير جابر                                                                                         


منذ أول ضربة بالفرشاة أو أوّل نقطة أو خطٍّ من قلم أو حزٍّ بسكين حتى تكاملها وتوقيع الرسّام في زاوية منها. يجب أن تُحاط اللوحة بسرّيَّة تامة -أو هكذا أظن-  لأنَّ تلك التراكمات والتجلّيات التي تكوّن وتُنتج وتؤسّس اللوحة لا ينبغي أن يشاهدها المتلقي أو يطلع على مراحل خلقها وتوليدها ومخاضاتها، فهي تشبه تماماً مسودات تتكاثف وتمتلئ بالشطب والتعديل، مع لحاظ أن التعديل والشطب هنا يكون في ذهن الرسّام قبل الشروع بأية خطوة جديدة تجرُّ المتلقي نحو المعنى أو قد يشطب ويغير ويعيد على القماشة، لكنّه في كلا الحالتين يجب أن لا يشعرنا بهواجسه وتردّده الإبداعي، لأنَّ اللوحة كمال منشود، وتوهم تام بأنّها هكذا حضرت من عالم الحلم إلى أرض الواقع. فمساحة الدهشة لا بدَّ أن تظل ثابتة في عقل المتلقي. 

هكذا خطر ببالي وأنا أرى أعمال الفنان النجفي الشاب حسن الخاقاني الذي تتوزع اهتماماته ما بين الزيت والتخطيط بالقلم الرصاص والنحت والحرق على الخشب، فضلاً عن التصميم مجرّباً خامات جديدة مع كلِّ محاولة منه لصنع عالمه التشكيلي الخاص الذي يبحث فيه عن التعبير بأدوات وأفكار دالة. 

الأجساد في عالمه- الذي يجسّده باحتدام وتكرارٍ بصريّ مقصود - متداخلة، مندمجة، تتشابك في تناغم وكأنّها لا تريد العزلة أو التغرّب، ترى في البقاء رهن (الآخر) حلّا لمشكلة الوجود، ومن يتأمّل خطوط حسن سيجدها منسابة جداً، تدل على  تصميم وإرادة قوية، حيث يعرف أين يقف وماذا يريد من كلّ تعرّج مقصود. مع التأكيد على ثيمة البوح، إذ يشكّل المكان سرانيّة مهمة تسمح لكل راغب بالتخلي عن ثقل الكلمات المنطوقة أن يحيلها إلى خطّ ولون وظل وضوء، بوح مصوّر بحركات محسوبة تصطنع بلاغتها من الهارموني الداخلي الذي يؤلف بينها وبين كل جزئيّة في  فضاء التشكيل.

إما غياب الملامح وتعويم الشخوص، فهو إشارة دالة منه إلى حالة السعي الحثيث الذي يكتظ بها الكائن البشري وهو يبحث عن هويته أو ملامحه أو حتى توصيفه داخل الوضع المأزوم الذي يكوّنه.. الأيدي تستطيل، الأكف، الأقدام، وكلها تبحث عن موطئ آمن في اللوحة، وفي الواقع تستكشف من خلاله موقعها من الكون والوجود والقضية التي تنتظر أن تعيش من أجلها.

في لوحة ذات فضاء مهيض، مضطرب، (وجه امرأة) تتشكّل درجات اللون (هو هنا بقايا قهوة) ومن ثمَّ الملامح على وفق رؤيا الهاجس الداخلي الهادر الذي يكوّن هذه المرأة، الملامح تصوغ فكرة، والفكرة ترتسم كينونة وذاتا موحشة، إذ تبيّن النظرة التي تختلط بها مشاعر التوجّس والرعب والخوف ماذا يدور داخل الجسد المتشظي في ضربات احترافيّة وتوزيع محسوب لتكون الكتلة اللونيّة مشعّة في الفراغ، الزاوية - زاوية نظر- المرأة تحيل إلى المتلقي، الذي سيظن أنّه المشار إليه، ومن ثمّ سيجد نفسه مطالباً بتأويل هذه النظرة.

في  تشكيل آخر نرى مساحة بيضاء، تشبه هوة، أو واحة، تتوسط اللوحة، يقول هو في توصيفها (فضاء).. وقد اعتدت أن لا آخذ بعنونة الفنان للوحته لأنّها هنا قصديته هو التي اشتغل عليها، بينما رؤيا المتلقي قد تخالفها وتبتعد عنها، في هذه اللوحة ثمّة فكرة عن الاستدراج والتوريط في (أمل) أو (سراب) أو (حلم) ومن ثم التخلّي، الألوان المحرّضة التي تحيط بالأبيض الغيمي تشبه منصّات تطلب من الرائي أن يقفز داخل سحرها المغري ومن ثم تبتلعه رغوة البياض، رغوة اللون الذي لا بدَّ منه لكي نواصل الخوض في الألوان الأخرى.

ولد الخاقاني في النجف العام 1977 وتخرج في كلية الفنون الجميلة عام 2003 شارك في أغلب المعارض العراقيّة في بغداد والنجف منذ 1998 وإلى الآن فضلا عن الرسم يكتب المقال ويعدّ برامج إذاعيّة، وكذلك مارس فن التصميم في مجلات وصحف عديدة وتتوزع أعماله في دول عربيّة وأوربيّة، منها الأردن، سوريا، الكويت، الإمارات وهولندا والسويد وكندا والدنمارك.