في رثاء مَن اتسعتْ رؤياهُ وضاقتْ عبارتُهُ

ثقافة 2023/08/28
...

 ريسان الخزعلي


يؤكد الشاعر علي عيدان عبد الله مغايرته لما هو سائد ومألوف، شكلا وبناءً وموضوعات منذُ بداية اشتغاله الشعري مطلع السبعينيات. وكانت مجموعته (لائحة شعر رقم 1) عام 1974 - دار العودة، من المجاميع الأولى التي أفصحت عن وعي وفهمٍ خاصّيَن لقصيدة النثر مؤشراً بذلك النوع في المغايرة، ولا تردد من اعتباره لأن يكون في الخط الأول من شعراء قصيدة النثر في العراق، تاريخيّاً وفنيّاً، بل من الأسبقين في هذا الشكل. والشاعر متمسّك بلونه الشعري - إذ لا مراوحة بين الأشكال -  وقد أصّلهُ بأكثر من عشرين مجموعة شعريّة (قصائد نثر) بين عامي (1974 - 2023). وكانت (في رثاء مَن اتسعتْ رؤياه وضاقتْ عبارتُهُ) آخر هذه المجاميع.

علي عيدان عبدالله، ورغم تفاعله الكلّي مع قصيدة النثر نشأةً وتنظيراً، إلا أنّه ابتعد عن محددات الشكل النثري الأفقي في الكتابة، الشكل الذي أشارت إليه (سوزان برنار) في كتابها (قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا)..، واكتفى بالاختزال والترميز والكثافة والدلالات الموحية، إلى الدرجة التي أوجد منها وفيها النمط الثابت، النمط الذي أصبح دالاً على خصوصيته في الكتابة. ومع أن الخصوصيّة من المهارات الفنيّة التي لا بدَّ وأن يتوافر عليه الشاعر، أيّ شاعر، إلا أنّها وبهذا الاتساع والتكرار والتشابه، قد توجد مناخاً خانقاً يُثير الملل في التلقّي عند القارئ العادي والقارئ المُنصت على السواء. غير أنَّ الشاعر كما أعرفهُ لا يلتفت إلى مثل هذه المحددات كونه متشاغلاً مع ما هو أعمق، متشاغلاً مع ما هو فكري وفلسفي، بعيداً عن اليومي واليوميات، كما أنّهُ يؤثر الصمت كثيراً مأخوذاً بعزلة روحيّة، وإحساس وجودي يُحتّمهُ المعنى الشعري الذي يذهب إليه بقصديّة واضحة (الشعر هو الفن الأسمى، باعتباره فن الخَلق والدلالة، وليس كما يقول ميكافيلي: الفن الأسمى هو فن الحرب).

في رثاء مَن اتسعت رؤياه وضاقت عبارته، يُرثي (الآخر) الذي أفاض عرفاناً وصوفيّةً ومعرفةً وعلماً وأدباً، بعد أن تسطّح الوعي في التلقّي وضعف الاستثمار العقلي، وليس لنقصٍ في كينونة ومعنى هذا الآخر.

وهكذا، يشارك الآخر محنتهُ (النفّري، التلمساني، سقراط، كانْت، الغجري، فوكو، راسل، المتنبي، سارا ماجوا، مالارميه، ابن رشد، الغفاري، ديك الجن، ميكافيلي، بوذا، البسطامي، روسيني) وغيرهم.

إنَّ المشاركة هنا، ما هي إلا استنطاق التجربة - تجربة الآخر - ومحاكاتها ذاتيّاً، حتى كأنَّ الرثاء رثاءُ الذات كما في:

  أصبو إلى تلك القلّة من الناس،

 عسى أن تمنحني تلك الابتسامة 

 التي أتوق إليها وإن من طرف الشفاه..

 أو كما في:

 إنّي أنا الذهبُ المعروف مخبرهُ،

 ارفعي صوتك بقدر ما تتمكنين ياروحي،

 فهل هناكَ سوانا مَن يرث الأرض؟

في الكثافة والاختزالات يوَفّر الشاعر لذّةَ النثر بمستوى ما هو شعري الوقع، وبالمعنى الذي التصق بالشعر ايقاعاً وإدهاشاً وحكمةً:

- مَن كان ديك الجن؟

- كان

أولّ مَن صنعَ كوزاً

من رمادِ المعشوق

وكان حينَ يرفعهُ يقول:

                          يا لخُلاصةِ خطيئتي!

.....،

أينما 

تجد فراغاً

إطلهِ بالأزرق

فمن الطبيعي، أنّهُ سيكون جزءاً من السماء.

......،

روسيني.. بإيجاز

لقد أفرطتَ في الرقّةِ

واستأثرتَ

بكلِّ ما هو جميل وأساسي..

علي عيدان عبد الله، في هذه المجموعة أو سابقاتها، يُثير الأسئلة الوجوديّة ويُجيب عنها بغنىً معرفيٍّ، جاعلاً من التخاطر الإيحائي مشتركاً بين الذات والآخر، في وحدانيّة وجوديّة، متحسّراً على ما حصل ويحصل، ومتمنيّاً الخلاص، ليقول خلاصة الفجيعة: (في رثاء مَن اتسعت رؤياه وضاقت عبارتهُ)..، والإطلاق واضح ويتعدى (النفّري) وصولاً إلى إنسانٍ أخير كما يأمل ويتمنى: 

في التمني

- وهيَ ليست وسيلة تفكير ناجعة –

لا حظوة للإنسان الأخير

إلا أن يلمَّ نفسه ليمرَّ...