ياسين طه حافظ
واضحٌ هو الشك في أهمية موقع الثقافة أو أنها مهمة مزاحة قليلا عن موقعها المفترض. ولولا ذلك لما كان تساؤلنا مشروعاً إلا لمزيد من التأكيد. نحن نعلم، أو علمتنا الكتب، عن ظهور وسقوط الفئات الاجتماعيّة، خارج أو ضمن الطبقات. وإن هناك طريقتين لذلك، الأولى حصول تدريجي على مراكز القوة يقوم به أفراد من طبقة اجتماعيّة جديدة، عبر محالفات مع أعضاء النخبة السياسيّة أو مع نخب ضد لهذه النخب. والثانية، التي نعرفها، تنشأ من مواجهة، من صدام بين الفئة الصاعدة وحكام المجتمع أو أسره الحاكمة او متنفذيه المخضرمين أو المتسلطين أو متوارثي السلطة والنفوذ.
عبر هذه التحرّكات ليس هناك ما يسمّى بالحراك الثقافي- الاجرائي، أو الفئة الثقافيّة.
الثقافة في هذه الأحوال أفراد متنورون، غير متنفذين ولا يتمتعون باستقلاليّة قرارات سياسيّة أو اجتماعيّة واضحة لكن بتبعيّة موضوعيّة للفئات الفاعلة.
استثناءاتهم تتأتى من عونهم الثقافي والتعبيري للقوى القياديّة.
وهذا لا بسبب المساهمة النديّة ولكن بسبب امتلاكهم لمواصفات الحِجاج والقدرة على التعبير.
هم عون للسياسي صاحب الإجراء والقرار، لإسناده وتوسيع حيويّة مقولته السياسيّة معنى هذا حضور الثقافة في ظل السياسيين الفاعلين أو في ظل الفعل السياسي، لإسنادهما أو للدعوة لهما أو أحياناً للفعل المضاد منهما.
ليس للمثقفين حضور فاعل مستقل.
وهذه حقيقة ندركها ونحن نتذكر الأحزاب ومثقفيها والحركات الوطنيّة تعرف، عملياً، قدر الثقافة الفعلي لا الافتراضي، ومما وراء صدور القرارات والاجراءات والتحالفات السياسيّة.
حتى في الحديث عن منجزات الحركات الثوريّة، أو القرارات الثوريّة، فهذه لا تتُخذ بصفتها الثقافيّة، التي أُسندت بها أو اقترحت منها، ولكن بصفتها السياسيّة والجهة أو القيادة السياسيّة التي «اتخذتها».
الامتياز الثقافي لبعض قادتها لا يعني، عملياً امتيازاً ثقافياً قدرَ ما هو اتساع وعي وثقافة سياسيّة لصاحب القرار، قائداً زعيماً او حزباً او نخبة سياسيّة تكوّنت من فرط احزاب وانتماءات. يعود التأكيد على أن الفعل الثقافي هنا فعل ثانٍ تابع لا قيادي.
وما يقال عن الجمعية الفلانيّة أسست.. والفلانيّة أقامت حفلاً أو تجمعاً وأعلنت فأقول هذه جمعيات وراءها ارادة سياسيّة لم تتضح احزاباً ولم تتكشف علاقات خارجية موجَّهة غالباً. لا مكان للبراءة في العمل السياسي. ما يحدث التغيير ليس الخطابات، ما تحدثه هي المصالح الاجنبيّة وهو التقدم الاقتصادي في البلد واصطدام المتقدم بالمعوّقات المصلحية القائمة، ثم التشققات أو نمو المتغيرات في الطبقة الحاكمة. وهذه عادة تتلقى غذاءها، أو مؤونتها، من مصادر تتضح فيما بعد.
لنا أمثلة في تموز الملكية في العراق وتونس بورقيبة وليبيا القذافي. الخارج موجود في الثلاث أو حاضر يراقب حدودها من بعد.
قد تكفي لهذه إشارة واحدة وهي عدم صلاح الفئات التقليديّة الحاكمة لمعالجة المشكلات الجديدة، ولتلبية الاحتياجات العالميّة المرتبطة بها. وهذه «العالمية» لها عادة ذراع فاعل في التغيير!.
السؤال الآن: أين تقع ميادين الفعل الثقافي؟ لا شكَّ بأنّها في زحام التذمّرات الاجتماعيّة من رداءات او غباوات الحكم والفوضى أو الارباكات الاداريّة والشكاوى من الموسسات الصحيّة او الضريبيّة، ومع هذه الخدميات تزداد الشكاوى القديمة، من الاستعمار اعتماداً على أن أساطين الحكم من صنيعتهم.. وفي عملهم التحريضي والخدمي هذا هم دائماً يستظلون بأقطاب الفعل السياسي.
لا نكران أنّهم من خلال حضورهم المساند والخدمي للسياسي كثيرو حماسة أو جاذبو ولاءات ومبدعو مفردات إقناع بالمُعلن.. هم يبذرون بذوراً مستقبليّة قد يكون لها فعل مستقبلي قريب، وليس شرطا أن يكون فعلا آنيَّاً. في كلِّ حال يظل فعلاً ليس مباشراً ولا قيادياً أو إجرائياً.
وهنا نسأل، وقد يكون هذا تعبيراً آخر عمّا سبق: هل الأسى والانكسار الإنساني، هل الحسّ التراجيدي لدى المثقفين – شعراء، كتاب، مفكرين، بسبب من الوضع الثانوي او التابع هذا؟، هل بسبب عمل الثقافة في ظل قوة أو فئة أو طبقة حاكمة؟، لكن شعراء ومفكرين وأهل أدب وفن عملوا في ظل زعامات وأحزاب وهم في توهّج وحماسة واندفاع؟، هنا يرد جواب أو استدراك: لكنهم انطفأوا بانطفاء القوى التي كانوا يخدمونها أو التي نهضوا في ظلها...
في التنظيمات السياسيّة، وضمن توزيع المهام، كانت للموضوعات المهمة لجان، وضمن هذه لجان ثقافيّة. أولا هذه تابعة لاجندة سياسيّة وفيها ممثلون عنهم: ثانياً الانتلجسيا، في كل ظرف تجهد لترفع او لتقدم تجمعات مثقفين- مفكرين ورجال قانون وشعراء او كتاب بارزين- مع الفئات الأخرى التي ارتفعت أو تقدمت وبصفات تلك الفئات. لكن قليلة او نادرة تلك التي احتفظت بأصالتها الثقافيّة وهذه قد يكون لها فعل ثقافي – نشاط أو اهتمام بمسألة ثقافيّة، ولكن بقصد التوجيه الاداري وبما يحقق نفعاً مزدوجاً للثقافة والمؤسسة والصحيح للمؤسسة والثقافة.
ما أردت بهذا الكلام التقليل من الشأن الثقافي قدر ما أردت رصد الخلل المدني والتحضّري في المجتمعات.
أردت القول أن الوضع الثقافي بدرجته الاجتماعيّة المتدنية، بالنسبة إلى أهميته ودرجة رقيّه، يعني ضمن ما يعنيه، الاستحواذ على الروح الحقيقي للمدنيّة في المجتمع الذي تهيمن عليه الفئة أو الفئات الحاكمة. وهنا ولكي نثبّت الحقائق في مواضعها، علينا الإقرار بثانوية الفعل الثقافي عمليّاً وحضور الخدمي المباشر منه. وهي حال تخفي الروح الجوهري للثقافة وفعلها القيادي الواضح. وهنا يظل الفعل الثقافي في مساومة طويلة مع الظروف ليؤكد حضوره الفاعل والمباشر. بعض من الاشعاعات الحيّة للثقافة يستفاد منها أدلة على أصالة وعصريّة النظم الحاكمة، وفي هذه فرصة حضور للثقافة. مهما اردنا التأكيد على اهمية الثقافة، والادلة والامثلة واضحة، تبقى الثقافة لا تقوى لتكون طبقة، ولا لتكون فئة حاكمة ولا قيادة أو مصدر حسم وقرارات.
نقدر جيداً انه يمكن، في الانظمة الديمقراطية، لقوى اجتماعية أن تشترك في الحياة السياسية، من غير النخب، لكننا لم نشهد قوة ثقافية ضمن أي تجمع قوى. الانتلجسيا موجودة ضمن قوى اجتماعية، لكنها تفتقد الكيان الثقافي المستقل وواضح المزايا. ضمن الكيانات قد تفتقد النخب غياب الثقافة، ويشعرهم هذا بنقص أو بشيء غائب يريدونه. لكن هذا الاحساس غير كافٍ ليمنح الثقافة نفوذاً وفعلاً إجرائياً أو قراراً سياسياً. الثقافة تقدم إنجازاتها في ظل غيرها من النخب، صاحبة الفعل السياسي أو الاجتماعي او العسكري.
الثقافة ليست أبداً مصدر القرار!