{آخرُ السعُّاة} .. ساعي البريد يطرقُ بابَ المجهول

ثقافة 2023/08/28
...

 رضا المحمداوي 

كثيرة هي الأفلام السينمائية العالمية التي وضعتْ اسم ساعي البريد عنواناً لها، أو استفادت من رمزيته ودلالته الدرامية في مضمونها، ورُبَّما أرادت السينما العراقية بإطلاقها العرض التجاري لفيلم (آخر السعاة) للمخرج سعد العصامي عن سيناريو وحوار ولاء المانع وتمثيل رائد محسن ومقداد عبد الرضا وأيار عزيز وحقي الشوك وإياد الطائي، أن تكون لها نسختها السينمائية من ساعي البريد كعنوان وموضوعة فنية وفي اختيارها لشخصية ساعي البريد العراقي الذي يفترض أن يكون الأخير الذي يمارس هذه المهنة بدلالة عنوان الفيلم (آخر السعاة).

وقد ظهر الفيلم وكأنَّه يحمل (رسالة) رثاء إلى (أيوب) (رائد محسن) ساعي البريد الذي يعمل بصفة عقد مؤقت وقد وجدتْ دائرة البريد في وزارة الاتصالات نفسها مضطرة للاستغناء عن خدماته وطرده من وظيفته نتيجة للتطور التكنولوجي واستخدام الانترنت وأجهزة الموبايل الذكية، إذ بات تبادل الرسائل بين الناس بأسرع ما يمكن، وها هي شركة الاتصالات تضع إعلاناتها الكبيرة عن سرعة الاتصالات في أكثر من يافطة في طريق عودة(أيوب) إلى بيته الريفي بعد طرده من وظيفته حيث يجد نفسه حبيس ذلك البيت دون عمل أو وظيفة أو راتب تقاعدي، وعليه الآن أن يطرق الأبواب ليس لايصال الرسائل وإنما للبحث عن فرصة عمل لإعالة زوجته(بلقيس)(أيار عزيز) وابنه (عبودي) وكأني بالفيلم يُقدّم رسالة تعزية بمناسبة موت مهنة (ساعي البريد) وقد حضرتْ هنا مفارقة درامية مؤلمة قدَّمَها الفيلم من خلال مشهد يبحث فيه(أيوب)عن صديقه (جاسم) ساعي البريد المتقاعد العجوز ولا يجد أمامه سوى الاستعانة بمكتب الخدمات السريعة للاتصالات للعثور على عنوان أو رقم موبايل (جاسم).

إنَّ مأزق أصحاب المهن والوظائف التي حُكم عليها بالانقراض بسبب التطور الهائل في وسائل وأدوات التواصل والاتصال الإلكتروني المتحكم بمفاصل الحياة اليومية سيقف شاخصاً أمامنا من خلال شخصية(أيوب) المواطن الأعزل الغريب الذي يعاني من أزمة الانتماء والشعور بالمواطنة وقد لفظته الحياة وأصبح يعيش على الهامش، ومن خلال هذه الشخصية وأزمتها الحياتية يدخل الفيلم حياة المهمشين ليصبح (أيوب) نموذجهم أو رمزهم الاجتماعي في الفيلم، ولكي تكتمل صورة ذلك المواطن المسحوق فإن الفيلم حرص على تقديمه مجرداً من أيّ انتماء اجتماعي، حتى العشائري منه فهو إنسان غريب مقطوع الجذور الاجتماعية (لفو) داخل بيئة ريفية عشائرية مستبدة في أحكامها وتقاليدها، وهو الأمر الذي يدفع (أيوب) ثمنه باهظاً وذلك من خلال التنازل عن بستانه وبيته لجاره(أبو نايف)(اياد الطائي) إثر خلاف عشائري ومن ثم النزوح إلى المجهول للبحث عن مسكن أو فرصة عمل.

ولكن هل يكفي هذا الوازع الإنساني والهم الاجتماعي لتقديم فيلم سينمائي ناجح ومؤثر وصادق في طرح معاناة شخصياته السينمائية؟

على مستوى السكن فإن الملاذ الأخير لـ (أيوب) سيكون بيت من بيوت العشوائيات(التجاوز) والذي يساعده(جاسم) في الحصول عليه، إلاّ أن البحث عن فرصة عمل سيكون الشغل الشاغل للفيلم ويجد(أيوب) الحل في التطوع كجندي في الجيش مدفوعاً بالأمل في حصول أسرته على قطعة أرض بعد استشهاده، وهنا في هذا المحور المهم يحصل الانقطاع الدرامي الرئيس في البناء السينمائي للفيلم فبعد تطوع (أيوب) وتعرضه للكسر في ساقه أثناء التدريب العسكري ومن ثم حصوله على المكافأة المالية من وحدته العسكرية، تنقطع علاقته بالجيش بدون ذكر الأسباب أو التمهيد لذلك وبما أخلَّ بالفكرة الرئيسة التي طرحها الفيلم في المشاهد الاستهلالية الأولى وكرَّرها في السرد الفيلمي وهي عقدة الحصول على قطعة الأرض بعد استشهاده.

وربما الإشارة التاريخية التى وردتْ في بداية الفيلم إلى أن الأحداث تدور في العام 2014 أثناء هجوم عصابات(داعش)على بعض المحافظات العراقية وسقوطها بأيديها كانت جديرة بالتوظيف والبناء عليها على نحو أكثر احتداماً وتأثيراً في الفيلم، وبما يساند ويؤازر تلك الفكرة التي راودتْ(أيوب) وأعادها الفيلم أكثر من مرة.

إلاّ أنني وجدتُ الفيلم بعد الساعة الأولى من زمنه السينمائي المُتكوَن مما يقرب من(90) دقيقة يدخل في أحداث وأفعال متعددة تقوم على المصادفات ومنها ضياع علبة الصفيح التي خبّأ فيها مبلغ المكافأة العسكرية والعثور على سوار الذهب في مكب النفايات وإعطاؤه لرجل الدين الدجال وشجاره معه وبعدها العثور على علبة الصفيح التي يبحث عنها وشراء الدراجة النارية الخدمية (الستوتة) وسرد بعض يومياتها. 

ويحدث هذا ويدور في حين أن الانقطاع الدرامي الأول المتمثل بغياب (أيوب)عن الخط العسكري ما زال قائماً رغم ما حفل به هذا المحور من مؤاخذات وملاحظات عديدة.

وكان يمكن للخط الدرامي الهامشي المُتكوّن من الفتاة ( سلمى) و (جاسم) عامل مولدة الكهرباء المحلية، ذلك العجوز الذي يعيش وحيداً بدون أسرة، أن يكون أكثر حضوراً وتأثيراً مما ظهر فيه لا سيما في هذه القصدية في إيراد مشهد (الفلاش باك) للاثنين معاً وبسبب إهمال هذا الخط وعدم الاهتمام به فإن مشهد إطلاق (جاسم) للطائرة الورقية وهي تحمل صورة (سلمى) مع الرسالة لم يترك انطباعاً درامياً قوياً أو مفهوماً على نحو واضح.

لقد افتقدتُ في الفيلم مشهداً مُهماً يفترض أن يكون مشهداً درامياً تأسيسياً في بنية الفيلم السينمائية يتمثل بإخبار(أيوب) من قبل دائرة البريد بالاستغناء عن خدماته وطرده من وظيفته قبل أن يواجه مصيره.

وبالعودة إلى تفاصيل حياة المهمشين والفقراء وانحياز الفيلم الأخلاقي إلى جانبهم، أولئك المواطنون العُزّل والذي ركزَّ عليهم الفيلم، فإن مشاهد مكب النفايات ومجاميع الفقراء الجوعى وهي تبحث عن لقمة عيشها وقوت يومها في أكوام القمامة جاءتْ مُعبّرةً وموحية عن حياة هذه الشريحة من المجتمع 

العراقي.

أما المجمعات السكنية العشوائية فإن الجهات الرسمية متمثلة بشخصية المختار(حقي الشوك) فلا تجد حلاً لها سوى بهدم تلك البيوت على سكانيها بواسطة الجرافات وهو المصير الذي انتهتْ إليه حياة (جاسم) المريض المصاب وقد أخرجه (أيوب) من تحت أنقاض وركام بيته الذي هدَّمَه (الشفل) ليمضي الاثنان معاً في (الستوتة) إلى طريق المجهول حيث ينتظرهم المزيد من الفقر والمعاناة والعوز.

صحيح أن الفيلم لم يتضمن مشاهد درامية محتدمة أو صعبة الأداء لشخصية(أيوب) التي أدَّاها الفنان القدير(رائد محسن) إلا أن أداءَه كان يتميز بخاصية العمق في التعبير عن حالات الانكسار والهزيمة والخذلان التي حفلت بها الشخصية ومن هنا جاءت تعبيرات وجهه بليغة ومؤثرة، و قد شكَّل مع الفنان القدير مقداد عبد الرضا ثنائياً درامياً حَمَلَ معه الكثير من الانسجام والتناغم والحضور الفني اللافت في الفيلم، دون أن نغمط حق الفنانة الشابة(أيار عزيز)في الإشادة والاطراء لدورها وإدائها المتميز لشخصية الزوجة المغلوبة على أمرها.