{چرخلة}.. ريبورتاجات باللهجة البغداديَّة

ثقافة 2023/08/29
...

 يوسف المحمداوي

ريبورتاجات حيَّة بدهشة المتلقي من غرائبيَّة المحلات التي تعشقت جدرانها بعبق الذكريات المتخمة بالحوادث القديمة الحديثة وبدلائل شفاهيَّة من سكنتها غير مستندة لكتب التاريخ وأرشفة التراث، هذا ما اراده الكاتب صباح محسن وأصرّ على ديمومة سرد تاريخ تلك المحلات باللهجة البغدادية لكونه لم يخرج من حدود جغرافية العاصمة في تصويره واستطلاعاته.
(جرخلة) أتت من جرخ يعني الإطار كإطار السيارة والذي نسميه بالعامية (تاير)، وهي كلمة فارسيَّة تعني الدورة، والجرخجي بمعناها الآخر تعني الحارس الليلي الذي يقضي ليله بالدوران بين أزقة المحلة، وبالتعبير الشعبي لسان حاله يقول (آخذلي جرخله وأرجع)، لكن المؤلف خالف عمل الجرخجي بالتوقيت الزمني ودار أزقة بغداد في نهاراتها، متأكداً من نجاح جرخلته لما يمتاز به سكنة تلك المحلات من سرائر نقيّة وذاكرة ماض صادقة لم ولن تشوبها وتشوهها أدران الحاضر.
الطبعة الأولى للجرخلة صدرت هذا العام من دار ومكتب التقدم للنشر والتوزيع في بغداد، بعدد صفحات بلغ (111) صفحة بدأها الكاتب بالإهداء والإشارة التي يقول فيها "في بغداد القديمة تنكشف الكثير من الأسرار والحكايات لتنفتح درابينها وأزقتها على متون فريدة ونادرة، إنّها مدينة تشبه امرأة تفيض بالرغبة والشوق لملاقاة من توله بها".
يأخذنا الكاتب في مؤلفه صوب (16) محلة من محلات بغداد (ليجرخل) بها راسماً لنا أجمل اللوحات، والكاتب محسن في مجموع رحلاته الـ (16) كانت حصة الرصافة (14) ريبورتاجا توزعت ما بين المحلات التالية وهي: "الصدريّة، البتاويين، الميدان، الشورجة، حي بغدادي قديم، شارع السعدون، شارع الكفاح، صديقة الملاية والميدان، الفناهرة وباب الشيخ، شارع النهر، حافظ القاضي، روجينه، الكولات وقنبر علي، دربونة البير" فيما لم تجد (جرخلة) للمؤلف في الكرخ سوى بمنطقتين هما الكاظميّة والشواكة، وهذا الأمر يثير أكثر من تساؤل قد يكون الجواب هو لكون الكاظمية من أقدم مناطق بغداد لكونها عايشت الخلافة العباسيّة، أو قد يكون السبب أن صاحب الكتاب من سكنة الرصافة وأمضى معظم سِنِي عمره في مهنة الصحافة بين أزقة ومحلات الرصافة، وهذا ما يجعلنا نتوقع بأنّ المناطقيّة وأجواءها وبيئتها فرضت على الكاتب الطاعة والانصياع اللا إرادي لأوامرها وعشقها المتجذر في روح السارد.
يبحر بنا "محسن" في بداية جرخلته نحو الصدريّة، والنفس وما تشتهي من الأطعمة قائلا باللهجة البغداديّة (اليوم جطيت للصدرية... وجانلك أخش من جهة ساحة الوثبة، إي مال أيام كبل من جانت المظاهرات ضد الانكليز معرة!)، ويصف المحلة قائلا (الصدرية طول بعرض ما يطلع بيها كيلو متر، وأشهر حي بيها الهيتاويين، وآني حصرت جرخلتي بيه.. وفتت على كهوة الرياضيين المتقاعدين والمنسيين) ليقابل فيها كاتبنا أشهر لاعبي كرة القدم من أمثال صباح حاتم، ولاعب الشباب رياض حسين وغيرهم من أبطال ألعاب أخرى، والحديث يدور بمتعة ودهشة ترافقها مرارة لا تخلو من الألم لما تعانيه تلك الشريحة من اهمال وتجاهل حكومي، وكذلك الحديث عن سكنة تلك المحلة من رموز كالعلامة مصطفى جواد والمصارع عباس الديك، والفنانة عفيفة اسكندر وغيرهم، والحديث لكثرة تفرّعاته وتعدد مسمّياته يفرض على القارئ إعادة التمعّن به أكثر من مرة، فضلا عن كون الكاتب لم يعتمد في جرخلته على مصادر تراثية تؤكد لنا ما ذهب إليه في كتابه، ليكون مصدره في كل ما كتب الحديث الشفاهي لسكنة تلك المحلة المعززة بالصور التي حرص المؤلف على وجودها مع كل ريبورتاج لهذه المنطقة أو تلك.
تنتقل بنا جرخلة باتجاه الشواكة من جانب الكرخ وكما يقول الكاتب (كل دربونة من الشواكة والكريمات وعلى قلة المسافة بيناتهن، بس اللي ساكنين بيها كل واحد يكول: آني وبس بالمنطقة! وعبالك كل دربونة مدينة قائمة بذاتها).
(ابو هداوي) أحد سكنة المحلة يشرح للمؤلف سبب تسميتها بالشواكة قائلا: (وليدي هاي السالفة كلش قديمة، لأن مثل مدا تعرف حضرتك جان كبل ماكو طباخات ولا بريمزات، فجان أكو بساتين بالجعيفر واهل المنطقة ينكلون شكو شوك يابس ويحشوه ويجيبوه لاهل هاي المنطقة اللي على جفة الشط ويبيعوه للأهالي، وتبدي الشغلة وتعلك النار ويصير النفس كله ريحة شوك، ومن هالباب سموها بعدين الشواكة اي وداعتك!).
الكاتب الذي انحاز للرصافة على حساب الكرخ بتناوله لمحلات الرصافة بنسبة 2/16، تجبرنا عدالة المهنة لتناول الشامخ الكرخي في ختام جرخلتنا مع جرخلة صباح محسن الذي يعنون حديثه عن تلك المدينة المقدسة بقوله "الكاظمية حين تتجمّد الذكريات" ويستنجد بالحاج جلال عبد الكريم الدبّاغ من حي البحيّة العتيك كلش على حدِّ وصف كاتبنا، الذي يدور به بين مصانع فتّاح باشا المشهورة بصناعة السجاد والبطانيات، وبيوتات التجار من أمثال عائلات (الشعرباف)، والدهوي، والفحّام، الذين هم من أعيان ذلك الحي، ثم يبحر بمؤلفنا مضيّفه الدبّاغ نحو دار د. فاضل الجمالي رئيس وزراء العراقي في العهد الملكي، ومن الجمالي يتجه الدبّاغ مع كاتبنا صوب دربونة العالم، وسميت بهذا الاسم نسبة للسيد اسماعيل الصدر، ومن اولاده السيد محمد والسيد جواد الصدر، والسيد صدر الدين الصدر جد السيد المغيّب موسى الصدر، وحسين الصدر ومنهم محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر، وجان بيته يطل على نهاية الدربونة، وكذلك بيت نعيم ابو السمسم صاحب معمله المعروف، ودار الراحل عبد الأمير الورد.
ختاماً نقول إنَّ المؤلف أجاد بحرفنة أن ينقل لنا أهمية كل محلة وأسباب تميزها بريبورتاجات ميدانية غير آبهٍ للمصادر الأرشيفيّة، معتمداً بالأساس على رؤية الواقع بالعين المجرّدة بخطى المتلهف الباحث عن المتعة والدهشة في السرد والصور.