علي عيدان عبد الله.. الحياةُ شعراً

ثقافة 2023/08/30
...

 لؤي حمزة عبّاس

مات الشاعر وطويت صفحته، وهي اللحظة التي بدأت معها الولادة الثانية لشعره، فالشعر، بتصوري، يولد مرّتين، مرة عند كتابته، وأخرى حال رحيل صاحبه، وموت علي عيدان عبد الله (1948 ـ 2023)، لا يمنح شعره ولادة ثانية فحسب، بل إنه يعيد إلى الذهن واحدة من حالات الثقافة العراقية التي كثيراً ما شابتها الظنون، حالة محمود البريكان، وفي شخصية علي عيدان الكثير من نزوع البريكان ومن توجّسه، وهما نزوع وتوجّس، لمن عرفهما، أصيلان في شخصيتيهما، وإن فرّق بينهما إصرار من قبل علي عيدان على مواصلة النشر والاستمرار فيه حتى آخر لحظة من حياته.

 فقد أصدر بين عامي 1974 و 2023 واحداً وعشرين كتاباً شعريّاً، لكن هذا العدد الوافر من الإصدارات، وهو معدّل ليس بالهيّن، إذا ما نظرنا للمنجز الفردي للشعراء العراقيين، لم يقف حائلاً أمام تساؤل بعض من شعراء قصيدة النثر العراقيّة عن أيّة معلومة حول الشاعر مع تداول خبر وفاته، ولم يمنع آخرين من تقديم تصورات آنيّة مبنيّة على قراءة في تسعينيات القرن الماضي لمجموعة نصوصه «في طبعة محدودة وبائسة»، مما يعني أنّنا أمام حالة بريكانيَّة من نوع جديد، فالشاعر الذي لم ينشر في أيّة مجلة عراقية، يوم كانت المجلات منابر للظهور، ولم يشارك طوال عمره الشعري المديد، في مؤتمر أو ندوة أو مهرجان، لم يختر أن يكون بعيداً، يحيا منسيّاً خلف جدران بيته في ميسان أو البصرة، وقد عاش فيهما معاً، وقام بما يتوجّب عليه فعله، لم يتوقف عن نشر شعره كلما استطاع، وتلك بتصوره مهمته الأساسيّة، أما ما بقيَ من إعلان، وتسويق، وتوصيل، فليستْ من مهمته، لأنّها ببساطة ليست من الشعر في شيء. 

وربما يواجهنا سؤال: هل من المنطقي أن يؤمن الشاعر بالشعر خياراً وحيداً لحياته، ويحجم بالمقابل، عن الإعلان عن دواوينه وتسويقها وتوصيلها لمن يهمّه أمرُ الشعر؟ وإذا ما استذكرنا المرحلة التاريخيّة التي أنجز فيها علي عيدان شعره، سنلاحظ الخط المتصاعد لحركة المتدافعين على المنابر وقد ملأوا المحافل والساحات سنة بعد أخرى، وصولاً لعقدي الظلام العراقي المطبق في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حتى صار من المنطقي أن ينشأ في جو مثل هذا نمط من الشعراء يرى في الصوت الهامس الخفيض مقاومةً فاعلةً أمام ضجيج التفاهة، وعاماً بعد عام، وعقداً وراء عقد، صار الخيارُ رهاناً، وصار الرهانُ حياة. الحياة بالنسبة لعلي عيدان عبد الله هي الشعر، ومن المستحسن هنا أن نستعيد مقولة البريكان الذهبيَّة «يستحق الشعرُ أن تُمنح من أجله الحياةُ كاملةً»، وهي المقولة التي جمّعت الشعر والحياة في كف واحدة، وجعلت منهما كياناً واحداً لا انفصال فيه، حينما نتحدث عن شعر البريكان أو شعر علي عيدان عبد الله فإنّنا نتحدث عن حياته التي ليس له سواها. ولنا أن نسأل: هل ترجم علي عيدان موقفه من الشعر والحياة، شعراً، كما فعل البريكان الذي نظر مليّاً في مرآة المصير الإنساني فلم يَرَ إلا ذاته ومصيره! أتصفّح مجموعة علي عيدان الأخيرة التي اختار نصّاً شعريّاً عنواناً لها: (حين يكون منزلك بعيداً، تكون أحلامك كسنديانة نزع الليل ريشها)، تحت شعور بالذنب مصدره رحيل عيدان وبقائي حيّاً، تبرق فكرة في ذهني: نحيا من أجل أن نزجي اعتذاراتنا لمن سبقونا بالرحيل! وأقرأ الكثير من النصوص المحمّلة بإيمان صاحبها بالانفصال عما هو سائد، والإيمان بأن السهم كفيل بأن ينطلق من تلقاء نفسه، ومن تلقاء نفسه يحقق أهدافه:

«قلنا: إن ذلك السهم

سينطلق من تلقاء نفسه

وسيصل

ألم نقل لك

لا تجذب الوتر!»

ثمة منطقة أخرى وجدها علي عيدان جديرةً بانشغال الشاعر فانشغل بها، باحثاً فيها عن خلاصه، إنّها منطقة (ما لم يحدث) وصلتها بما حدث وما يجب أن يحدث:

«ما شغلني ما حدث

لأنّه وجب أن يحدث

ولكن

يشغلني ما لم يحدث

لأنّه يجب أن يحدث»

خلاص الشاعر، في نهاية الأمر، أن يكون وحيداً، وفي جوهر وحدته تتعدّد حياته ويتماهى مع سائر المخلوقات، إنّها كينونة اللا أحد:

«حين تكون وحيداً

من حقك أن تكون أيَّ شيء

نبتة/ نحلة/ ملاكاً

كيف؟

لأنّك حينذاك

ستكون لا أحد»

تلك مقاومة علي عيدان عبد الله التي افتتح بها كتابه، مأخوذاً بالحلم والطموح في المضي في طريق الضوء، مصرّحاً، في النهاية، بيقينه بما اختار لنفسه من موقع، وما ارتضى لحياته من شروط: 

«إن لم تكن واحداً، فليس بإمكانك أن تواجه الجموع».