سفر برلك.. مرارةُ البحثِ عن الرغيف

ثقافة 2023/08/30
...

 أحمد عساف  


أسدل الستار منذ أيام قليلة على العرض المسرحي (سفر برلك) الذي قدّمه طلاب قسم التمثيل في الجامعة العربيّة الدوليّة كلية الفنون، الدفعة الأولى على خشبة مسرح الحمراء بدمشق.         المسرحية كانت من تأليف ممدوح عدوان، وإخراج د.عجاج سليم.. عجاج الذي أخرجها على خشبة مسرح الحمراء بدمشق منذ ثلاثين عاماً، ها هو يعيد الاشتغال عليها ويقدمها على ذات الخشبة، وإنما بوجوه مسرحية جديدة. 

قد يتساءل أحدنا عن السبب في ذلك، سأقول: ليس الحنين من قاده لفعل ذلك، ولا ندرة النصوص المسرحية. من وجهة نظري أعاد هذا العمل لعدة أسباب منها أنه حين أخرجه لدفعة من تلاميذه هم من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق. قبل ثلاثين عاماً، وهم الآن من أهم نجوم الدراما في سورية والوطن العربي. 

ربما أراد تكرار ذلك لتحقيق نجوميّة وموطأ قدم لطلبته الذين استمر مشروعه معهم منذ أربع سنوات، ولربما ينتابه ذات الإحساس، في مشروعه الآن مع شابات وشبان بذل كل جهده معهم للوصول إلى عرض تخرّجهم. ويريد لهم أن يكونوا نجوماً في المستقبل. 

 ولعلَّ السبب الأهم ما مرت وتمر به سورية من حروب وحصار وأزمة اقتصادية خانقة، شكّلت مادة مسرحية تمتصُّ حزن وبؤس الناس الذين يعيشون حالياً في سورية. ومن ثم تعكس هذا الواقع المؤلم والحزين. وأن التاريخ يعيد ذاته في كثير من الأحايين.الزمن المسرحي يرجع كتاريخ، إلى الاحتلال العثماني لسورية تلاه الاحتلال الفرنسي.. هذا النص المسرحي الذي ألّفه الشاعر والأديب الشامل الراحل ممدوح عدوان، والذي يعتبره من أهم أعماله. وقال عنه: (هذه المسرحية هي تعبير الطبقة المسحوقة عن نفسها، وهي تحاور وتحاول خرق جدران الصمت المضروبة حولها وحول وضعها..).  

على حين أن مخرج العمل وقبل العرض الأخير لمسرحيته هذه قال: (أقف بإجلال واحترام لروح ممدوح عدوان، شاعر الجياع ونبي الراهن، السوري الوطني حتى العظم).

 سفر برلك.. نص مسرحي قام بتحديث أحداثه المخرج عجاج سليم، وجعل منه أحداثا تراجيدية تتماهى والواقع السوري الآن، حيث الرغيف هو زاد الحياة وقوت المرأة وخبز الطفل الجائع، سينوغرافيا، نجح المخرج في إضفاء الكثير من الحداثة المسرحية من تكنيك واشتغالات مسرحية حداثويّة، نجحت في خلق طقوس مسرحية مبتكرة، شدت إليها جماهير العرض المسرحي هذا، من عرض الافتتاح إلى عرض الختام. الجمهور الذي امتلأت به صالة مسرح الحمراء بدمشق.   

 مقولة النص تعيد التاريخ إلى عصرنته عصرياً. الجنود العثمانيون، الذين يعيثون فساداً وفتكاً بالبلاد والعباد، والشبان الذين يقتادهم العثمانيون بقوة السلاح وبالبطش لحرب لا علاقة لهم بها، ولا يعرفون أسبابها ولا نتائجها.

 في العرض المسرحي هذا المزدحم إلى حدٍّ ما بعدد الشخصيات أكثر من 19 شخصية. سنجد أكثر الشخصيات في العرض هي، الشخصيات التي تنتمي للجياع للنساء اللواتي يبحثن عن رغيف خبز لأطفالهن، للرجال الذين ينتظرون موسم الحصاد وبمناجلهم يحصدون القمح. لكن المستعمر العثماني يأخذ رغيفهم بالعنف وبالقوة. 

شخصيات هذه المسرحية ترزح تحت سطوة البحث عن الرغيف، بحيث يعتبر الرغيف معادلاً يومياً لجدار آمن، لطفل يبكي جوعاً، ولرجل لن يحتاج لمزيدٍ من حيرة البحث عن الرغيف. 

شخصيات متناقضة الجنود الأتراك بفتكهم وبقسوتهم. وبشخصية المختار الذي لا قرار له ولا مقدار. الباشا الذي اشترى (باشويته) بالعملة العثمانيّة. شخصية المجنون (عيسى خوري – شخصية سطّوف  المجنون)، الذي عشق امرأة وبكل جنون، وأنقذه جنونه المفتعل من عدم ذهابه مع الجنود إلى الحرب. كذلك نجح يحيى دراوشة بدور الرجل البدوي. وتألقت سارة عيسى بدور زلفة. ورنيم حرفوش بدور جفلة. 

الممثل أنور حيدر نجح كثيراً في دور (صالح) من حيث الاشتغال على مساحات الصوت والتعبير بملامح الوجه وحركة الجسد. كذلك شخصية المرأة التي تبيع جسدها للجنود العثمانيين، من أجل حصولها على بعض أرغفة الخبز لأطفال القرية. استخدم المخرج كل تقانات الحداثة المسرحية، من حيث التكنيك والإضاءة والديكور. والموسيقى التي شكلت تناغماً لافتاً ومحبباً لنا كمتعة بصريّة وسمعيّة. كذلك تم استخدام بعض تقنيات السينما كمعادل بصري يتماهى بهارموني عذب مع سينوغرافيا العرض المسرحي. لكنني كنت أحبذ عدم ظهور الفرقة الموسيقية ولو على طرف خشبة المسرح طيلة العرض. وأن تكون الموسيقى كباقي عروض معظم المسرحيات من خارج الخشبة.. إنَّ هذا العرض يستحق الكثير من الوقفات، وهو من العروض التي لن تنسى بسهولة.