الخطّاطون: التكنولوجيا عدوّة مهنتنا

ريبورتاج 2023/08/31
...

 رحيم رزاق الجبوري


لا يختلف اثنان على قيمة العنصر الجماليّ لفن الخط العربيّ، لما يكتنزه من محفزات بصرية غاية في الروعة والإبهار.. وككل المهن والأعمال التي يمارسها الإنسان ويبدع في إتقانها؛ قد تخضع للتطور بشكلٍ سلبيٍّ أو إيجابيٍّ، عطفا على عوامل عديدة تدخل فيها عصر التكنولوجيا ومتطلبات سوق العمل؛ الذي غيّب مهنا عديدة وتداخل في عملها، إذ أصبح بالإمكان أن يمارسها أي شخص، بيسرٍ ومن دون عناءٍ، و"مهنة الخطّاط" واحدة منها.. فالذي يمتلك آلة طباعيّة حديثة، يستطيعُ أنْ يشيرَ بإصبعه على أي خط يريده ليخرج نتاجا فنيا بدقائق معدودة؛ بعد أنْ كان الخطاط يضعُ كل موهبته وقدراته في رسم كلّ حرف يخطه على قطعة قماش أو جدار يقضي فيها ساعات طويلة، لا تخلو من التعب والمجهود والتفكير.

لا تزالُ على قيدِ الحياة
يقولُ الخطّاط إيهاب قاسم (32 عامًا): "إنَّ هذه المهنة لا تزالُ موجودة؛ ولكنْ ليستْ كما في السابق؛ بسبب التطوّر التكنولوجيّ والحداثة الّتي طرأتْ على سوق الطباعة ومظاهر التجدّد في عرض الإعلان والبوستر. وستصبحُ من التراث في السنين المقبلة، نظرًا لتزايد الطلب على المنتج الطباعيّ السريع". ويتابعُ: "أمارسُ مهنة الخطّ منذ 15 عامًا، ومتذبذبٌ في مزاولتها؛ بسبب الطلب الخجول عليها".

ضعفُ الإمكانيّات
وعن مواكبة الحداثة، وتطوير عمله، يحدّثنا قاسم: "ليستْ لدي الإمكانيّة لشراء مطبعة؛ كوني لا أعتمدُ على هذه المهنة بشكلٍ كبيرٍ، وأعدّها مهنة إضافيّة. وبسبب أنَّ أكثر الطلبات، الّتي تردني هي الخطّ على جدران المباني، والمؤسّسات، وواجهات المحلّات، فضلاً عن القماش، وهي نادرة جدًّا، حيث تعودُ لمزاج صاحب شركةٍ ما، أو مصنعٍ والّذي يتطلّبُ منه المكان، عمل جداريّة تُكتَبُ بخطٍّ كبيرٍ، بسبب عدم إمكانيّة طبعها في المطبعة الحديثة". ويشيرُ إلى: أنَّ بعض الزبائن تلجأُ إلى الخطّاط، كون الكتابة والخطّ بالألوان يكون عمرها أطول. ومنهم من يعتبرها شيئًا، وشكلًا جماليًّا أفضل من الطباعة؛ فيبحثون عن إبداع خطّاط اليدّ وفرشاته الماهرة برسم الحروف العربيّة وتطويعها له؛ والّتي لا يجيدُ الحاسوب فعلها".

أسعارٌ مُتقاربةٌ
ويضيفُ قاسم، الّذي يعملُ موظّفًا حكوميًّا، بالقول: "إنَّ كُلفة عمل البوستر في الطابعة، تبلغ (8 آلاف دينار)، وهو سعرٌ مُقاربٌ لكلفة عمله بخطّ اليدّ، لكنَّ الفرق بينهما هو في السرعة والمجهود. فمثلًا الطابعة تستطيعُ طبع لافتةٍ مكوّنةٍ من (60 سطرًا × 1 متر) خلال 5 دقائق، بينما في القماش تحتاجُ لوقتٍ ومجهودٍ طويلين. وأغلبُ الناس تبتغي السرعة، مع كلفةٍ أقل".

خطّاط جوّال
لمتطلّبات السوق وحاجتها المُتزايدة. وتوجّه العالم نحو الفضاء الرقميّ بكلِّ شيءٍ؛ شرعَ إيهاب بتأسيس صفحة على (الفيسبوك)، تحت اسم (خطّاط جوّال)، يعرضُ فيها خدماته في مجال الخطّ، مستخدمًا سيّارته الخاصّة لإنجاز المهام الّتي ترده، كونه لا يملكُ محلًّا، أو موقعًا محدّدًا. جاءتْ هذه الفكرة؛ تماشيًا مع عصر السرعة الّذي نعيشه، والّذي ألقى بظلاله على مهنتهم بشكلٍ ملحوظ.

الحنينُ إلى الماضي
الخطّاط والرسّام صباح علوان هلول (60 عامًا)، يتحدّثُ بمرارةٍ وأسًى، عن واقع مهنتهم، وما فعل بها التطوّر التكنولوجيّ، إذْ يقولُ: "ماضينا الجميل الكلاسيكيّ كانت فيه أشياءٌ جميلة؛ رغم كل الظروف القاسية التي عشناها، لكنّنا (أي الخطاطون)، كنّا نجني مبالغ لا بأس بها تساعدنا على تخطّي العقبات الاقتصادية.. إذ كنّا نعملُ اللافتات بكميّات كبيرة، ونخطُّ على الواجهات الحديديّة للمحلات التجاريّة، وعلى أبواب الثلّاجات وغيرها، كما نضعُ عليها الحروف البارزة بكلِّ أشكالها من خطٍّ ورسمٍ، فضلاً عن تخريم الحروف، على خشب البلوك والمعاكس والفلّين. ونصنعُ الأقواس و(الدِنگ) والديكورات الخشبيّة الجميلة، ونعملُ الحروف بالخشب والكبس مع الفلّين، والّتي تُسمّى في الوقت الحاضر"(3D).

مهنة الشقاء
ويضيفُ، هلول: "مهنتنا كانتْ مُتعبة وشاقّة جدًّا! ولكنّنا نعطيها حقّها بإظهار العمل بشكلٍ جميلٍ ورائعٍ، لأنَّ كلَّ شيءٍ تصنعهُ هو إعلانٌ لك ولمجهوداتك الكبيرة الّتي تضعها في أيِّ عملٍ تقومُ به. بحيث تبقى القطعة محافظة على شكلها وبهائها؛ لأكثر من ثلاث سنواتٍ، فكنّا نشبعها ألوانًا من أصباغ (البوية)، إضافة إلى استخدام جميع ما نملكُ من مهاراتٍ وقدراتٍ فنّيّة، تخرجُ العمل بصورةٍ تبهرُ الناظرين".

رصاصة الرحمة
 ويتابعُ علوان، الّذي مارسَ مهنة الخطّ، منذ نعومة أظفاره، وتأثّرَ بعملاق الخطّ العربيّ، الخطّاط هاشم البغداديّ (1921 - 1973)، والفنّان فائق حسن (1914 - 1992) حديثه، قائلًا: "كانتْ مهنة الخطّ منتشرة بصورة كبيرة في بغداد؛ وكان الخطّاط مطلوبًا في الكثير من الأماكن التجاريّة والصناعيّة وغيرها.. حيث مارستُ الخطّ على لافتات المحلّات، الّتي كانت من القماش (الچادر) وصنعتُ لها الفريمات من الخشب، وكانت الأحجام تتجاوزُ (6 أمتار) كأنّها عملٌ مطبعيٌّ! وكنتُ أعزّز اللافتة - والكلام للخطّاط علوان- بإضافة الرسم ووسائل الإيضاح، حسب مهنة صاحب الطلب. فأرسمُ أشياءً دالّة على مهنته. إضافة إلى ممارستي الرسم على الأقمشة، وواجهات الصيدليّات، واستوديوهات التصوير، وصالونات الحلاقة الرجاليّة والنسائيّة؛ الّتي كنتُ أبدعُ وأتفنّنُ في صناعة لافتاتها؛ لأنّها تحتاجُ لعناصر جذبٍ عديدة. إلى أنْ دخلت علينا التكنولوجيا؛ وأطلقتْ على مهنة الخطّ رصاصة الرحمة؟ وذلك بانتشار مكائن الطباعة الرقميّة ((CNC، بكلّ أنواعها، والّتي كان لها الأثر السلبيّ على المهنة؛ وسحب البساط منها!".

معيار البقاء
يشعرُ هلول، بالرضا والقبول على ما بذله من مجهوداتٍ طوال مسيرته الفنّيّة، مُعربًا عن تفاؤله، في قادم الأيّام، ويقولُ: "إنَّ مهنة الخطّ الكلاسيكيّة، باقيةٌ رغم كلّ الظروف والمُعطيات الصعبة الّتي تطرّقنا إليها؛ بسبب وجود بعض المحبّين ومتذوقي الفنّ الجماليّ القديم، كما أنّني - على الصعيد الشخصيّ - لا زلتُ أمارسُ - بشغفٍ كبيرٍ - مهنة الخطّ والرسم على
جدران الدوائر، والمؤسّسات، والمدارس، والمستشفيات، وغيرها، وهذا يجعلني أشعرُ بالفخر، والسعادة، وليس في مُخيّلتي الاستغناء عنها".

لمْ أكنْ خطّاطًا
لمْ يكنْ لديه أيّ معرفةٍ ودرايةٍ بفنون الخطّ العربيّ، وأساسيّاته. لكنَّ عالم السوق الرقميّ واحتياجاته؛ دفعه لمزاولة مهنة الطباعة الرقميّة، إذْ يقول سيف الدين حُسين (28 عامًا) صاحب (مطبعة المعرفة): "لمْ أكنْ يومًا من الأيّام خطّاطًا! حيث دخلتُ إلى عالم الطباعة الحديثة من خلال اكتسابي للمهارات والقدرات التقنيّة الكافية، الّتي تؤهّلني للعمل على الحاسوب، كما تولّدتْ لدي خبرة متراكمة من خلال عملي على طابعات الورق منذ الصغر، وكذلك فهمي واستيعابي للتصاميم والأشكال الّتي تلائم حاجة الزبائن".
ويضيفُ: "من الواجب، والضرويّ على كلّ شخصٍ، يحبُّ مزاولة هذه المهنة؛ أنْ يتعلّم المهارات الأساسيّة للحاسوب، وأبجديّات التصميم المتعدّدة.. فالعملُ على تلك
المكائن الحديثة؛ يتطلّبُ شخصًا مؤهّلًا علميًّا، وعمليًّا، لكي يتمكّن من صيانتها وأدامتها بشكلٍ صحيح".

اختلافُ الأدوات
الخطّاط جاسم حميد الربيعيّ (53 عامًا)، [بكالوريوس فنون جميلة - قسم الخطّ العربيّ - مُجاز بفنّ الحُروفيّات]، ينوّهُ إلى الفرق بين اختلاف أدوات الخطّاط في السابق، والوقت الحالي، قائلًا: "لا يخفى على الجميع، الدور الّذي يؤدّيه الحاسوب، والتكنولوجيا في هذا الوقت. وخصوصًا في الدعاية والإعلانات. فقد كان للخطّاط -سابقًا- أدواته من فرشاةٍ، ولونٍ، وقماشٍ، أو قطعة خشبيّة، أو معدنيّة؛ لإنجاز إعلانه الّذي يحتاجُ إلى ساعاتٍ طوالٍ حتّى يجفّ. هذه المدّة الزمنيّة اُختِصرَتِ الآن بدقائق معدودة بإتمام وإخراج العمل الإعلانيّ المطلوب. فمكائن الطباعة بأنواعها المُختلفة؛ سَهّلتِ الكثير من خطوات العمل، وخصوصًا نحن نعيشُ في زمنٍ مُتحرّكٍ، ونحتاجُ فيه إلى السرعة، والدقّة بالإنجاز. بما يتناسبُ وحركة العمل".

هويّتنا العربيّة والإسلاميّة
وعن انحسار مهنة الخطّ، وابتعاد الخطّاطين عن مزاولتها، يقولُ عضو المركز العراقيّ للخطّ العربيّ، والساعي إلى إصدار كرّاسٍ تدريبيّ، في كيفيّة تحسين خطّ الكتابة الاعتياديّة: "إنَّ الفرق بين الزمن الماضي والحالي؛ هو بالأشخاص الّذين يعملون في مجال الدعاية والإعلان. ففي السابق كان أغلب الّذين يزاولون المهنة هم من الخطّاطين وخرّيجي كلّيات ومعاهد الفنون الجميلة -أيّ من ذوي الاختصاص- أمّا الآن، فأنَّ غالبيّة الّذين يديرون دفّة الإعلان الرقميّ؛ هم مصمّمون. سواء كانوا مهندسين، أو غير مهندسين. وأغلبُ الخطّاطين الأن اتّجهوا إلى مزاولة أعمال أخرى، أو وظائف في غير اختصاصهم السابقة. ومنهم من اتّجه إلى عمل اللّوحات الفنّيّة، واختصَّ بها؛ لأسباب ذكرناها سلفًا. لكنَّ يبقى فنّ الخطّ العربيّ؛ عنصرًا مُلهمًا في شتّى المجالات الفنّيّة، وأنْ تعرّضتْ مهنة الخطّ الكلاسيكيّة، للانحسار في الوقت الحالي.. فإنَّ الحرف العربيّ يبقى هويّتنا العربيّة والإسلاميّة، وإنْ كنّا نفتقدُ لمتذوّقيه ومتابعيه!؟".

مواكبة التطوّر
الخطّاط والرسّام حيدر طاهر الجبوريّ (56 عامًا)، الّذي كان خطّاطًا، ويمارسُ مهنة الخطّ الكلاسيكيّة، لمدّةٍ طويلةٍ جدًّا، لكنّه لمْ يذعنْ، ولمْ يستسلمْ، وظلَّ مواكبًا للتطوّر الّذي طال مهنتهم، حيث اقتنى طابعة حديثة، واستمرَّ بمزاوجة ما تعلّمه من فنون ومهارات الخطّ العربيّ، الّتي جُبِلَ عليها، وتقنيّات التصميم الحديثة الّتي أنتجتها الطابعات الرقمية، إذْ يقولُ: "عملتُ خطّاطًا لأكثر من ثلاثين عامًا. وعند دخول الطابعات الرقميّة؛ أصبح الطلبُ على الخطِّ اليدويّ قليلًا جدًّا، فكان لا بُدَّ من الولوج لهذا العالم.. وبالفعل أقتنيتُ طابعة حديثة، وبسبب تجربتي السابقة في عالم الخطّ؛ فلمْ أمضِ وقتًا طويلًا بتعلّم أسرارها وتفاصيلها، لأنَّ خلفيّتي المعرفيّة في فنون الخطّ العربيّ، والتصميم السابقتين كبيرة، وثريّة جدًّا. وقد أسعفتني كثيرًا في تذليل الكثير من الصعوبات الّتي تواجهني. إضافة إلى علمي المسبق بمعرفة حاجة الزبون، ومعرفتي الدقيقة في كيفيّة تصميم وصناعة الإعلان وتفاصيله؛ الّذي يتطلّبُ ويحتاجُ إلى فكرةٍ ناضجةٍ ورصينةٍ،
فضلًا عن الترابط، والتنسيق العالي، بين مكوّناته؛ لكي يظهر الإعلان بصورةٍ لائقةٍ وجميلة تَجذبُ الناظرين".

بَقِيَ وَفيًّا لفرشاته الذابلة
في الخامسة والستّين من العمر، وبعد أنْ قضى جُلَّ حياته في مهنة الخطّ.. لكنّه للآن؛ لا يزالُ يمارسها، وبَقِيَ وَفيَّا لفرشاته، وعُلِبِ ألوانه المُتناثرة، على منضدةٍ خشبيّةٍ قديمةٍ، في محلّه القابع في زوايا إحدى العمارات القديمة والمُتهالكة. زرناه لأكثر من مرّةٍ؛ لكنّنا لمْ نجده؟ فقد أعطانا إجابة صريحة ووافية -دون أنْ يدري- للواقع المرير الّذي تمرُّ به مهنته، مُبرِّرًا ذلك – لاحقًا - بسبب الإقبال الشحيح على الاستعانة بخدماته؟ إذْ يَسردُ الخطّاط ياسين البيّاتيّ، بعضًا من ذكرياته في العصر الذهبيّ لمهنتهم، حينما كان الطلبُ عليهم لا يتوقّفُ. لكنْ بعد مجيء الطابعات الحديثة؛ ضَعُفَ الإقبال عليهم بشكلٍ كبيرٍ؟ مُشيرًا: "إنَّ عمله الآن مُقتصِرًا على خطّ لافتات القماش الّتي يرغبها البعض. وكذلك بين الحين والآخر أشتغلُ على تجميل واجهات المدارس والمباني، فضلًا عن مواسم الانتخابات.. وأيّام مُحرّم الحرام بالمختصر: المهنةُ ليست كما في السابق؛ والعصر الرقميّ، أخذَ مأخذه الكبير منها!؟".