التهكم الفانتازي في (أشعث.. أغبر)

ثقافة 2023/08/31
...

 د. سمير الخليل

يؤسس القاص أحمد جار الله ياسين خطاباً فانتازياً في مجموعته القصصية (أشعث .. أغبر) الصادرة عن اتحاد الأدباء، ويقوم على تناول الواقع الذي يعاني اختلالا وارتكاساً يجعله قابلا لهذا التصدي الذي يكشف عن خوائه وزيفه، وما ينطوي عليه من ظواهر تثير السخرية وتبعث على التهكم، ومما عمق من هذا التوجه استلهام الواقع عبر متواليات قصصية تعتمد – من حيث الصياغة الأسلوبية - على فن القصة القصيرة جداً أو (الومضة القصصية) بوصفها الوسيلة والأسلوب الذي يمكنه الاشتباك مع معطيات واقع يعاني التناقض والمفارقات والخلل.

ونلحظ بنية القصة القصيرة لدى القاص تعتمد أسلوب المفارقة السريعة  المختزلة من دون الاستغراق في فائضية التفاصيل وبهذا تحقّق درجة من استقطاب المتلّقي الذي يجد بهذه الومضات السرديّة عملاً يمتلك خصائص السرد من مكان وزمن وشخصية وحدث، ولكن وفق (اختزالية) السرد وإيقاعه (الوامض) الذي تقدّمه القصة القصيرة جداً بوصفها جنساً سردياً يعتمد (الضربة السريعة)، ولعلّ جمالية القصة القصيرة جداً أنها تحقق شعرية المعنى عبر الاختزال والتكثيف وتقديم فكرة (بانورامية) من خلال تقديم رؤية تسلّط الضوء على موقف أو حدث أو شخصيّة أو فكرة بطريقة التأطير، وفق إيقاع يشبه الخط المستقيم أي أن السرد فيها يباشر عمق ومركز المعنى من دون استرسال في بقيّة التفاصيل، والتمركز حول زاوية محدّدة يمنح هذا الاشتغال نوعاً من اجتزاء منظور (جزئي) للتعبير عن فكرة تتّصل بالمنظور الكلّي، ويقترب هذا الفن من المونتاج السينمائي، بوساطة تحوّل هذه القصص والوقفات السريعة إلى (لقطات) كاشفة لأعماق وخفايا الواقع وحفر في مدياته وما ينطوي عليه من الباطن والمسكوت عنه والمستتر تحت طلاء الخارج الذي يتحوّل إلى نوع من الإخفاء أو التزويق.
انطوت هذه المجموعة القصصية على قسمين الأول (أشعث .. أغبر) والثاني (حروب سريّة) وقد تضمن القسمان عدداً كبيراً من القصص القصيرة جداً مما يتعذر تناولها كلّياً وتفصيلياً، ويتطلب الأمر مساحة أكثر اضعافاً من الفسحة التي نتناول بها هذه التجربة التي تستحق الإشارة والاشتغال النقدي لما أنطوت، عليه من قدرة على رصد الواقع المحتدم بالتناقضات والمؤطر بالمفارقات والقائم على التأرجح وعدم الثبات والزيف، والظواهر السلبية التي تمسخ وجود الإنسان، وتجعل المجتمع فضاء للصراع والنفعية والبراغماتية وهيمنة المنطق الأنوي، لاسيما وأن كثيراً من القصص تتعدّى لموضوعة الاستبداد السياسي والطبقي والاجتماعي وتقدّم نقداً لاذعاً لظواهر اجتماعية تفتقد إلى المنطق بل هي أقرب إلى مدينة مستباحة يمثّل طرفيها المركزيين الأول (الوالي) بوصفه الشخصيّة المهيمنة التي ترمز إلى التسلّط والاستبداد وشخصية (أشعث .. اغبر) التي تمثل المواطن المسحوق اجتماعياً وسايكولوجياً إذ يتحمّل كل هذ الواقع (الفانتازي) وما ينطوي عليه من حماقات وأحداث فارقة تجمع كل أنواع الأدب الفانتازي من أحداث غرائبية وعجائبية وبأسلوب النقد التهكمي مع الاهتمام بعناصر السرد كاللغة والتأطير والاختزال ولحظة (التنوير) أو يمكن تسميته (بضربة النهاية) فالنهايات في هذه القصص تمثّل اشارة دلالية للتعبير عن الفكرة والمعنى المركزي المراد. وقبل أن نتناول أو نستشهد ببعض النماذج تقتضي المقاربة النقدية الإشارة إلى ظاهرتين: الأولى تتصل بالمعنى الإحالي أو الإشاري الذي تضمنته العتبة الأولى بوصفها إحدى موجهات القراءة حيث تضمنّت إشارة إنكار أو استبعاد لكنّها بالحقيقة نوع من التوكيد الضمني وكأن القاص عبر المماحكة يشير إلى أن قصصه لا تدور في الواقع الذي نعيشه بل إنها تنقل وقائع أحداث جرت في بلاد (عجائبية) أخرى، كقوله: “وقعت أحداث (أشعث – أغبر) في الزمن الغابر بولايات نيكاراغوا وكوستاريكا وبعض منها في فنزويلا وأماكن أخرى في العالم ولا علاقة لها بولايات عالمنا العربي السعيد!!.. ولاشك أن كل شيء في هذا الواقع الفانتازي ينطبق عليه وصف (أشعث – أغبر) الإنسان .. المواقف .. القصص .. الأمنيات الأحلام.. الحب، الثقافة.. الظاهر الباطن..الخ”.(المجموعة: 5). وهذا النفي بحد ذاته هو إشارة تهكميّة بل هو توكيد لقصديّة الكتابة عن الواقع الذي يتشاكل مع روح العبث والمفارقة واهتزاز القيم، وتحوّل الواقع إلى مجموعة حكايات فانتازيّة تكشف عن القبح والزيف، وهيمنة السخريّة وتحوّل الإنسان إلى كائن مهمّش ومقموع وأداة بيد قوى الاستبعاد الاجتماعي والسياسي.
نلحظ في قصة (اتجاهات) مثل هذا الاشتغال على مستوى تكثيفي المعنى والدلالة الكنائية، “توقفت الحرب أخيراً وعاد ما تبقى من جنود، فتّشت بين وجوههم عن وجهه، فلم تعثر عليه، أخبروها أنه لم يتجه معهم إلى محطة القطار وإنه اتجه إلى السماء شهيداً فاندلعت الحرب ثانية في أحشائها ولم تتوقف أبداً حتى هذه اللحظة”. (المجموعة: 18).  تتجلّى في هذه القصة اللمسة الإنسانية ووجع المرأة أماً وأختاً وزوجة، وهي تبحث أو تنتظر الجنود الذين عادوا من سعير الحرب، بل كثير من قصص المجموعة تدين الحرب والموت إلى جانب الزيف والخداع باعتبار هذه الظواهر هي التي تحيل المجتمع والحياة إلى مفارقة دامية فيها من الأسى والسخريّة وانعدام المنطق، وغياب التوازن والجمال، أما قصة (ديمحماراطية) فإنها تقدم صورة فادحة المعنى لانتقاد الواقع وتقديم شكل تهكمي (غروتسكي) وهي تسخر ممّا يحدث في البرلمان بوصفه مساحة تجسد فيها المفارقات والتناقضات، مما يجعل هذه المجموعة تتشابك مع تأزمات الواقع وتداعياته السلبية قوله: “لا تلم أحداً يا عزيزي وتوقف عن الشكوى.. هذا ما قاله الثعلب مبتسماً.. الحمار انتخب الثعلب نفسه (50) مرّة بوصفه عضواً في برلمان الغابة التي احترقت (50) مرّة أيضاً..”. (المجموعة: 27).
وهناك ظواهر يمكن الإشارة إليها منها قدرة الكاتب على توظيف العناوين القصصية التي مثلّت نصاً موازياً ينطوي على سخرية دالة وإغراء وايحاء وقد استخدم أسلوب التقطيع داخل الجمل لتوكيد هذه الإشارات والإحالات مثل: (بطّ... انية) و (صد... اقة) و (مطي ... ع) و (مش... رق). وقدّم نصاً مختزلاً ينطوي على معنى وفكرة عميقة، وبصياغة اختزالية كما في نص: (خيانة): “يكنس أيامه المتناثرة.. أيام العمل، والعطل والمناسبات، والحروب والسجون والتسكع، .. يضعها في حقيبة سوداء ثم يرميها مساء في النهر، ويعود إلى غرفته الضيّقة في الفندق القديم برفقة أيام الحب فقط... تعترض الشرطة طريقه.. وتلقي القبض عليه بتهمة خيانة التاريخ العظيم للوطن!!”. (المجموعة: 84).
ومن الظواهر التي يمكن رصدها في النمط السردي القصير هي ميل الكاتب إلى الرؤية والاشتغال الشعري على مستوى انتقائية المفردة كما في النص، وقد استهله “يكنس أيامه المتناثرة..” وهو يقدّم مشهداً حركياً ويتابع عبر التواتر السردي الشخصيّة المركزية التي تمثل فكرة أكثر من كونها شخصيّة، فالشخصيات والأمكنة والأزمنة والأحداث تبدو عائمة بلا أي تجديد أو تقنين أو صياغة دلالية مباشرة. ذلك يشير إلى أن هذه الموتيفات السرديّة عنيت بالفكرة والرصد والمحايثة من دون تأطير حقيقي ودون تفاصيل لأن الفكرة هي التي تمثّل البؤرة المركزية وتقترب من أن تكون المنحى الذي يشكل مفهوم البطولة
فيها.
فالقصص لا تراهن على الشخصيّات والأسماء والأمكنة والأزمنة بقدر تمركزها لنقل طقسيّة (المشهد) أو الفكرة التي تدور حولها، وتكشف جانباً من جوانب الخواء القابع في مجتمع عائم وقلق، ونجد براعة تشخيص هذه المشهدية الوامضة ودلالاتها الإشارية العميقة كما في نص (كابوس) الذي يقول فيه، “الجنرال المتقاعد كان يستأنس دائماً بحلم بسيط، ترتسم فيه نافذة تطلّ على بحر تحلّق فوقه النوارس.. لكنّه أوصد تلك النافذة حين بدأت تظهر في البحر بوارج حربيّة.. تحلّق فوقها طائرات حربية مقاتلة”. (المجموعة: 85). نلحظ شعرية دالّة في هذا النص على مستوى انتقاء المفردات وتواليها وتشابك الرؤية بين الحلم والكابوس وكأن فعل (التقاعد) جعله يضجر من أخبار الحروب بعد أن تسمّمت شخصيته برماد الحروب، والنص يقدم رؤية سايكولوجية لشخصية وموقف إشكالي فيه كثير من عوامل التناقض والمفارقة المرّة.
والجدير بالإشارة إليه أن القصص لم تكن قد تناولت واقعاً أو زاوية معينة ومحددة، بل كانت ارتحالات في رؤى متباينة ومتفاوتة، وقد تكون حادّة أحياناً أو حالمة أحياناً أخرى وهي ترصد أبعاد الواقع الإنساني بكلّ تفاصيله وميادينه السياسية والاجتماعية والسايكولوجية والوجودية وإن كان التركيز على الواقع السياسي الذي يُعدّ الواجهة التي تعكس طبيعة واستقرار أو اضطراب البنية (السيوسيو – إنسانية..)، وفي الحين نفسه يحقق معنى كبيراً وفكرة منفتحة على الترميز والتأويل من دون فائضيّة سرديّة وفق اشتغال اختزالي شفيف كما في نص (عزف... منف... ي): “تزوّجا فأنجبا نايا حزيناً بعد تسعة شهور من العزف المنفرد”. (المجموعة: 89). فالنص من نمط السطر الواحد الذي اسميه (الومضة القصصية) لكنه حقق عبره بنية سرديّة فيها الشخصيّة والزمن والمكان والحدث وقدّم مفارقة تقترب من روح الشعر واختزال الوقائع باتجاه معنى ضمني واشارات ذكية واستطاع النص وفق هذا الاشتغال أن يقدم تقنية التكثيف (الشعري) وينفتح باتجاه تعدّد قراءة الحدث من سلطته الواقعية إلى أفق التأويل وجمالية التلقي.
ونلحظ مثل هذه الاختزالية وبراعة الالتقاط ورصد حالة أو ومضة سريعة لكنّها تنطوي على فكرة ومضمون انساني كبير وعميق كما في نص (درس) “بجانب الأنقاض التي خلّفتها الحرب.. ظل كتاب القراءة مفتوحاً على صفحة (دار... دور) ثم قلبته الريح إلى صفحة (نيران)”. (المجموعة: 95). ففي النص تحليق باتجاه شعرية المعنى الناتج عن فاعلية التكثيف (البصري) فالقصة بلا اسماء ولا استرسال إنها نطق متحرك بات متوتراً وهي تقدم الحرب وبشاعتها بسطر واحد، وتجسد التناقض الدامي فيها من خلال الصراع بين مفردتي (دار... دور) و (النيران) وهذان هما طرفا المعادلة التي تثيرها الحروب التي تستهدف البيوت وتجسيد فن اشعال النار وتقديم جحيم بشري، وفق هذه الاشتغالات الجمالية والسرديّة والاختزالية يرسم القاص نصوصه ويؤطرها بالحس (الفانتازي) مستثمراً تقنيات السرد القصصي وما تمتاز به القصّة القصيرة جداً من قدرة على الرصد والالتقاط وتعميق المعنى وتأسيس عالم مترع بالمعنى والإشارة والترميز وباتجاه تفعيل شعرية النص وتعدد دلالاته
التأويلية.