فلسفة الأنثى

ثقافة 2023/08/31
...

 ناجح المعموري

تأخذ الغيرية المهتم بالهوية وعلاقة الأنا مع الآخر ووجهاً لوجه بضرورة الاطلاع على ما يمكن الإطلاع عليه، من مؤلفات متوفرة للفيلسوف لفيناس، وحتماً سيجد نفسه بعد القراءة واقتراح ما يمكن توظيفه في الانشغالات الثقافية وهي كثيرة، ساندة للموقف الشخصي حول ظاهرة من الظواهر الضرورية في المجال العام الحيوي والمهتم، ولأني أعتقد بأن الفلسفة تدنو من النقد الثقاف في بعض الاهتمامات وتتجاور معه، فإنها تتجاور مع الأدب مثلما قال هارتمان، لأنها تستجيب للفحص والقراءة المتنوعة والتأويل.

لذا أعتقد بأن التوفر على ما هو ضروري في الفلسفة يساعد المثقف في توسيع أفق التأمل والاقتراح، وهذا مهم. وستظل الثقافة العراقية مكتفية بالأنواع الأدبية والكتابة عنها معتقدة بأن ذلك كاف. لكن ماذا لو توفرت معرفة فلسفية للناقد ستكون كشوفه. وبودي الاشارة والتذكير بتجارب نقدية عالية ومهمة لتوفر الآلية التي ذهبت اليها وهي تجربة الاستاذ المفكر سعيد الغانمي وتجربة د. علي حاكم صالح وتجربة الناقد والروائي فلاح رحيم. هذه الكواكب، قدمت ما يساعد الثقافة العراقية على الوقوف راكزة على قدميها، متسامية بين مثيلاتها، والدليل فوز المفكر سعيد الغانمي بأحد أرفع الجوائز العربية. كلامي هذا لا أريد منه الإشارة إلى اهتمامي بالمعرفة والفلسفة بشكل بسيط، بل الاشارة إلى ضرورات وجود مثل هذه العناية والانشغال، لأن الفلسفة لا توفر فرصة طرح الأسئلة والبحث عن الاجابات، بل تصوغ أو تسهم بصوغ آلية مغايرة للتفكير والبحث عن المختفي في كل ما هو مطروح للقراءة أو الحوار.
قادني اهتمامي بلفيناس إلى موضوعة الجسد لديه، وهي ليست جديدة، لأن كل الفلاسفة ذهبوا اليه واعتنوا به وتغايرت الآراء حول ذلك، لكني أعتقد بأن لفيناس دنا اليه أكثر وهدم تصورات عميقة للغاية، على الرغم من أنها تبدو معلومة ومعروفة. ولأن لفيناس ذهب إلى الفلسفة بقرار قصدي وتعمق أثناء عمله الدبلوماسي، لأنه وثق تماماً، من أن التوجه نحو الفلسفة لم يكن صدفة، لا نتيجة إيمانه القوي من أنها هي نفس الثقافة وروح الحضارة التي شكلتها وجعلت منا نحن ما نحن وكما قال زهير الخويلدي. ولا يقوى القارئ للفيناس تجاهل يهوديته وتراثها الثقافي والمعرفي في التواصل إلى رؤى عن الآخر، نظراً للاضطهاد الكبير الذي تعرض له اليهود في التاريخ ومثلما هو معروف. وكان لمثل هذه السرديات تأثير بالغ من اجتراح آراء ومواقف مهمة عن الغيرية وذهب إلى ما لم يقله أحد غيره من الفلاسفة وعلى سبيل المثال اعتبر الآخر/ الغيرية الله، الموت، الأنثى، الحرب. هذا المربع الميتافيزيقي والأخلاقي خاص به واشتغل عليه بكل تنوعاته ولأني كتبت مقالاً عن الاله، والمقصود ـــ بالنسبة له ـــــ يهوه اليهودي، فسأقدم محاولة عن الأنثى، لأنها بالنسبة له ولغيره غيرية كبرى، ذات حضور ومشاركة حياتية في الحياة حاضراً مستقبلاً؟ بمعنى هي آخر لا يمكن الاستعاضة عنه أبداً، بل هي ــــ الانثى ــــ مكملة لحياة الانا/ الرجل، والمساهمة في كل ما يتوصل اليه، بوصفها شريكة (أن الغبطة وسيلة حياة مثلما الريشة وسيلة كتابة) وهي لا تدرك إلا بالعودة إلى الذات، وعندما يفهم المرء ما يحصل له ويزداد إحساسه بهويته عن طريق انخراط جسده في عالم الحياة، لأن الجسد ليس ذلك الدخيل الابدي الذي يحطم وثنية الفكر/ الخويلدي/ ص24.
إن الشخص المنشغل بقضية ما ويظل منغمراً فيها ومتورطاً بالتفكير بكل ما يحوط بها، لا يمكن أن يكون منعزلاً عنها، بل يجب أن يقف على مكان قوي رصين. ويجعل من نفسه حاجزاً ومتوجداً على القاعدة المجازية ويتحول إلى مهيمن. وما يعنيه لفيناس بالقاعدة هو «الجسد»، بوصفه حدث الوعي والجسد يمثل هذا الحضور والهيمنة يمتلك خصائص تمسك بالأنا وتجعله قابلاً وقانعاً بما هو حاصل. إنه الانقلاب الكبير الذي فجره الجسد في علاقة الانسان بالواقع كما قال لفيناس والذي ذهب لتكريس فاعلية الجسد المشارك بتشكيل عالم الذات. لأنه يعتقد بأن الجسد لم يكن كومة من المادة، إنه أكثر كثيراً وأقل قليلاً من مجموعة أحزانه.
الوجه والعينين بوصفها مرايا الروح، هي أعضاء التعبير بامتياز والجسد لا يعبر عن الحدث لأنه نفسه الحدث. ولأن الجسد هو المتمركز في فلسفة لفيناس، والمهيمن والمعول عليه، والذي يوفر أكبر الفرص من أجل تشكيل الذات، ورسم وتحديد ملامحها، ومتطلباتها، كي تكون ذات فاعلة وحقيقية إذا ما نجحت في تحديد اطار الوعي. ومثل هذه الذات المتمكنة في بلورة الوعي، فإنها تتعايش مع العالم بوصفها بؤرته، ولم تكن هذا البؤرة عبر الذات، لأنها وجوداً مادياً مباشراً، بل هي متجذرة ــــ الذات ـــ بواسطة الجسد. ويذهب لفيناس لايضاح ذلك، ودائماً ما يذهب للتوصيف من أجل ايصال الرسالة للمتلقي والذات في البيت، مربض الجسد ومأواه. والمأوى ليس القوقعة والعزلة ونهاية الحياة الانسانية وانغلاقها، بل أشر لها الضروري وبدايتها. ألم يأتي الأنا إلى العالم داخل وبدأ علاقته نحو الوجود من عتبته. إن المأوى من حيث شقة تنتمي إلى عالم الأشياء ولكنها من حيث هي بيت الانسان نفسه، فإنها تجعل العالم الحميمي الذاتي ممكناً ويفيض بالمعنى، أنه ليس مكان الوحدة والعزلة، بل مجال لممارسة حق الضيافة والانتظار والاستقبال لجميع زائريه دون تحفظات، إنه وجود الجسد وجسد الوجود ومكان لقاءات الانثى وتحولها إلى وجود بالنسبة للذكر، بعبارة أخرى لم يعد الوجود الانثوي داخل البيت. آخر الوجود أو الوجود الآخر، بل يصبح وجود الانثى هو الشرط الضروري لذكورة الوجود اقبالاً وانفتاحاً/ الخويلدي/ ص25.