خرائطُ الليلِ والنَّهارِ في شارع بشَّار

ثقافة 2023/08/31
...

 طالب عبد العزيز

 سأتسلمُ عبارة كالفينو «لا احد يحتمل رائحة الحقيقة الكريهة» بوصفها مدخلا وحجة، لأقول شيئاً عن شارع بشار، أو خرائط الليل والنهار، كما يمكن تسميته، بتاريخه البعيد، المسكوت عنه، والمدون في قراطيس البلدية بسمعته غير المشرِّفة، ولا أزيد، إذا قلت بأنه كان الملاذ غير الآمن لأقصر متع الجسد في البصرة، والذي لم تفلح تسميته الجديدة، بطابعها الديني في انتشاله من هويته الأولى.
 فقد كان حاكم المدينة الاسبق (سعدي عيّاش عريم) دمغه من الطول إلى الطول، وسمّاه شارع بشار بن برد، في تقريب واضح بين حياة ساكنيه من النساء، بائعات الهوى، وسيرة الشاعر البصري المعروف بعربدته وسكره ومجونه، وها نحنُ ننسج الحكاية عن نول حائك ظريف.
   قبل أربعين عاماً، وفي مقهى على ناصيته، كان الشارع قد جمعنى برجل هجر بيته، الذي كان على بحر الفاو، وجاء، تعطَّل مركِبه، فباعه في سوق الخردة بجزيرة الدوكيارد، وحين امتلأ هميانه بالدراهم دخل بيتاً من بيوت الشارع ذاك. كانت  الشمس قد صوحت جسدي طويلاً، حين دخلتُ بيتها، القريب من ساحة الدواليب، بالمشراق: يقول. حدث هذا نهاية الخمسينات. في البيت الذي ظل يهتزُّ طويلاً في التاريخ، وعلى سرير لم يعتنَ به، أطبقتُ بمراكبي المالحة على ساحل أول امرأة في حياتي، وأحسستُ بلذة المرساة الأنثى، ولكي أرضي فتوتي عاودتها في اليوم الثاني، ثم الثالث فالرابع .. كلُّ الخرائط كانت تشير إلى الاسرة الرطبة  تلك.
 عدتُّ إلى البحر خاسئاً، وظلت أسماءُ ليلى وفردوس وسهام وزكية وابتسام .. عالقة في رأس مركبي الذي خسرته، ولم يقع أحدٌ في قراطيس الشرطة، التي بعثرها الشباب المتحمس عام 2003 على أسمائهن، كذلك ذابت بيانات الطبيبين، في دائرة الحجر الصحي بمياه المطر والمجاري التي طفحت، وظلت تطفح إلى اليوم. كانَ الشارع قد أقفر في العام ذاك، وحلَّ الظلام قبل الظلام بساعة، ولم يأتِ أحدٌ من البحارة، اصدقائي، الذين خسروا مراكبهم مثلي.  يحمِّل أبناء البصرة رأس النظام مسئولية تفرق النسوة في الضواحي، أولاء اللواتي لم يبق من أجسادهن شيء. كان سيّافو جيش القدس قد علّقوا رؤوس بعضهنَّ على الاعمدةـ، وتشققت قلوب بعضهن الآخر أسىً وفجائع.
 بعد الوقيعة لم يبق من نساء الشارع إلا من راحت تبيع الخمرة والثلج والباقلاء عند باب بيتها المغلق، يسوّرها حشدٌ من الاطفال، الذين لا يعرفون آباءهم، أما اللواتي سلمن من الليلة تلك فأخذهنَّ شوقٌ قديمٌ إلى فنادق ومقاهي ومطاعم الجهة الثانية من الشارع، صرّن إلى هناك، فكانت الابواب تنفتح وتنغلق دونهن. كنتُ أراهنَّ خارجَ عيون الشرطة السرية، يطرقن أبواب الظهيرة وآخرة النهار خائفات، ترتسم صورهن في زجاج مغازات الشارع الوطني، وسوق حنا الشيخ الجديد، ودكاكين سوق الحورية بالخضارة. كل الخيّاطين والنجّارين والحلّاقين والحدادّين، وكلُّ عمال الحمّامات والفنادق والمقاهي صاروا أصدقاءَ لهنَّ.
   تقول فائزة:» قبّلني وضمّني إلى صدره فهربتُ معه» وكنتُ بيضاء وشقراء وكنَّ سمراوات! ولأن أمّي أقوى من أبي، فقد كنتُ أرى أصدقاءها الرجال، يدخلون البيت عليها، فتفيض بجسدها عليهم. لا أقول بأنَّ أبي كان لا يعلم بذلك، لكنني رأيته ينشغل بأزرار الكهرباء، يطفئها، ويعيد النور لها كلما دخل أحدُهم. كان صاحبُ مطحنة للشعير بالدوكيارد، حيث يعمل، لا يمنحه الكثير من الدنانير، مع أنه ضخم الجثة وأسمر ويترك حذاءه على العتبة، حيث يراه الجميع. كذلك كان الليل يدخل علينا من باب المطبخ، ومن ثلمةٍ في حائط حجرة أمّي يخرجُ الرجال إلى الشارع، ولا يبقى من تنهداتهم على سريرها إلا القليل.
  قبّلني أحدُهم مرةً، فشعرتُ برعشة غريبة في فمي، وحين ضمني إلى صدره في المرة الثانية هزتني رعدةٌ، تلمستها في جسد أمي غير مرّة، ساعتئذ، عرفت لماذا كانت أمّي تُكرمُ أصدقاءَها من الرجال، لهذا هربتُ مع أحدهم. كانَ الشارعُ آنذاك يقوم بالتئام وجهتيه، ولمّا يفعل الحاكم السعديُّ فعلته بدمغه، وكنتُ صغيرةً بما يكفي، فلا يدخل الرجالُ عليّ إلا بتصريح من الشرطة، امّا الرجل الذي تبعته فقد مات، سقط من جبل في حرب الشمال، أودعني في بيت صاحبٍ له، كثير البنات، ومضى. في الصباح أمضي إلى السوق، أتبضعُ الخبز والزبدة وكلمات الذين أمرُّ على دكاكينهم، وفي النهار تأخذني إحداهنَّ إلى  بيتها، أظفرُ لبناتها شعورهن، وأصنع لهنَّ الفطائر، ولمّا صرتُ أذهبُ وأعودُ بأمري، دخلت بابَ أحد البيوت المجاورة، كان ليل ساكنيه مثل ليل أمّي جميلاً، فأقمت.
 في سوق الأعلاف، القريب من ضريح عزِّ الدين الكوّاز، كانت البيوت متراصةً، تستند إلى بعضها، فلا تسقط، كلُّ باب تقود إلى باب أخرى، وكل مصراع ينخسف عن مصراع، والنسوة معروفات فيها، لا تعدم بينهنَّ من تملك الوجاهة والمزلة الرفيعة. لكنَّ رجلَ البحر الذي خسر مركبه مازال يصرُّ على أنَّ ابتسام(تركمانية من كركوك)هي التي قالت: كنتُ الثلج في حرِّ البصرة، قبل أنْ يستقر بي المُقامُ في الشارع، الذي وجدتُ من يطلبني فيه، فأنا بيضاء وشعري أشقر، وهناك من ينتقيني من بين بنات البصرة السمراوات. على المرء أن يشيخ ليفهم أكثر . لعله كريستوفر هيتشز الذي قال:» لقد مرَّ محترقا بين غصنين هذا المسمار، الذي يجمع المتكأ بالمسند»  ضحكت ابتسام ضحكتها التي أحبُّ، ولم يعرني رجل البحر
انتباهةً.