تأثير الثقافات المتعددة في الشعر العالمي المعاصر

ثقافة 2023/08/31
...

  أمجد نجم الزيدي

  بعيدا عن التجارب العربية، وما يمكن أن نطلق عليه المشهد الشعري العربي، الذي تتناوبه عدة تيارات منها التيار الذي ما زال ينافح عن التقليد الشعري العمودي، بشكله التناظري السيمتري، وتيار قصيدة التفعيلة، وتيار آخر تمثله قصيدة النثر وغيرها، يشهد المشهد الشعري العالمي المعاصر تحولًا ملحوظًا في أشكاله ومواضيعه واهتماماته، منذ بدايات ظهور العولمة وثورة الاتصالات، وذلك بسبب التأثيرات الثقافية المتزايدة للثورة المعلوماتية، التي جعلت العالم «قرية صغيرة»، حيث كان لها دور كبير في انفتاح الشعراء، على الثقافات والتجارب العالمية بمختلف لغاتها، والذي أدى إلى إعادة تشكيل للمشهد الشعري، بما يتلاءم مع حجم الانفتاح الثقافي الواسع، ومدى تأثير تلك التعددية، وكيفية مساهمتها في تطور الخطاب الشعري.
   يدرك الشعراء المعاصرون ما لهذه التعددية الثقافية من تأثير كبير، لم يسبق له مثيل من قبل، وحجم الثراء والتنوع اللذان تجلبهما الثقافات المختلفة للكتابة الشعرية، من خلال دمج عناصر متنوعة تشترك فيها هذه الثقافات واللغات، والذي يدفع الشعراء إلى البحث عما يتجاوزون به حدود التقاليد الشعرية التقليدية، المقيدة لهذا الانفتاح والدمج، وينشئون فسيفساء من الأشكال والمواضيع والتقاليد الثقافية التي تعكس عالما مترابطا بشكل متزايد، يضيف هذا الدمج بين هذه الثقافات العمق والحيوية والتنوع إلى الشعر المعاصر، مما يعيد بناء علاقة وصلة جديدة بالقراء، الذين ينتمون إلى خلفيات ثقافية متنوعة.
ومن تلك التأثيرات والتي قد لا نجد لها صدى كبيرا بين الشعراء والتجارب الشعرية، وخاصة العربية منها؛ هي تحطيم حواجز اللغة، إذ يجرب الشعراء استخدام لغات أخرى، من خلال دمج بعض الكلمات والعبارات والتعابير التي تنتمي إلى لغات غير لغاتهم الأصلية، والتي قد يراها بعض المهتمين تجاوزا على أصالة اللغة وثرائها، ومدى ارتباطها بالهوية الثقافية وخاصة للشعوب التي تعيش مرحلة ما بعد الكولونيالية، ولكنه - وبوجهة نظر أخرى- أسلوب أو باب للتواصل، يصبح التعبير الشعري فيه وسيلة لسد الفجوات بين تلك الثقافات، وتعزيزا للتعاطف والتلاقح بين التقاليد اللغوية لتلك اللغات المختلفة، إذ من خلال هذا التفاعل، يخلق الشعراء مشهدًا شعريًا عالميًا أكثر شمولاً، قد يُمكن لقراء ذي خلفيات مختلفة الانخراط في العمل الإبداعي إلى مستوى عميق، بغض النظر عن الحدود اللغوية.
   يركز الشعر العالمي اليوم أيضًا على استكشاف الهوية الثقافية، من خلال التجارب الفردية والجماعية وتفاعلها، داخل المجتمعات متعددة الثقافات، بالإضافة إلى البحث في تعقيدات الهوية، والتحديات التي يواجهها الأفراد والمجتمعات التي تبنى وفق ثقافات متعددة، من خلال دمج المراجع الثقافية، إن كانت (آدابا أو فنونا، أو أساطير أو رموزا أو غيرها)، وصهرها ضمن بوتقة واحدة، يرسم بها الشعراء المعاصرون صورة حية للعالم المتنوع الذي نعيش فيه،  والذي يغذي تقديراً أعمق للاختلافات الثقافية، ويشجع الحوار، ويعزز الشعور بالوحدة وسط التنوع.
    تحتفي التأثيرات المتعددة الثقافات في الشعر العالمي المعاصر بجمال وثراء الثقافات المختلفة، وتمحو فكرة التقليد الشعري السائد، والذي ينتمي إلى مفهوم أصالة الثقافة وانغلاقها، إذ يستلهم الشعراء العادات والطقوس والتقاليد الفنية للمجتمعات المختلفة، الذي يغرس في أعمالهم الإبداعية، وجهات نظر جديدة وأصوات فريدة، يتحدى هذا الاحتفال بالتنوع المفاهيم التقليدية للشعر ووظيفته، ويبرز أشكالًا متعددة للتعبير الشعري التي يمكن أن تلقى صدى كبيرا بين قراء الشعر ومتذوقيه في جميع أنحاء العالم، إذ يكون الشعر شاشة لعرض وجهات نظر وحقائق جديدة، توسع مدى رؤيتهم لذلك العالم الكبير، مما يعزز الفهم والتعاطف بين الثقافات المختلفة.
تمثل التأثيرات الثقافية المتعددة، تحولًا مهمًا في المشهد الشعري العالمي، من خلال احتضان ثقافات ولغات متنوعة، إذ أنشأ الشعراء تقليدًا شعريًا جديدا أكثر شمولاً وترابطًا يعكس عالمنا «المعولم»،  لقد حطم هذا التطور في وظيفة الشعر وأدائه حواجز اللغة، وأعاد استكشاف الهوية الثقافية، واحتفل بالتنوع، وعزز التفاهم والتقارب بين
الثقافات.