وهو بالأفق الأعلى

العراق 2023/08/31
...

أحمد عبد الحسين

أؤمن أنّ لكل إنسان معراجه إلى الله.
أؤمن أنّ العروج ليس حكراً لنبيّ وإنْ كان معراج رسول الله “ص” تامّاً تبعاً لتماميته وكماله هو. وكلٌّ بحسب استعداده، فمعراجُ يونس كان في بطن حوت، ومعراج أيوب مرضه، ومعراج نوح في سفينة، ومعراج موسى تيهه أربعين سنة في الصحراء. لكنْ نحن أيضاً لنا معارجنا إلى الله ذي المعارج.
هكذا أعتقدُ بعمق. اعتقادي أننا دائماً وأبداً نعرج إليه على قدرنا، على قدر قلوبنا، إذ “القلوبُ أوعية” كما يقول عليّ، و”خيرها أوعاها” أي أوسعها وأكثرها تقبلاً للمتناقضات!
كلّ معارج الأنبياء لها منظور أفقيّ، إنها سير في الآفاق لكنّها في مآلها ومحصلتها صعودٌ وترقية. وجوههم متوجهةٌ إلى الأفق لكنه “أفقٌ أعلى” بالتعبير القرآني. فالمسير لهذا الأفق الأعلى منبسط ظاهراً لكنه في آخر الأمر صعود وعروج.
العارفون من الذين كانوا يحجّون مشياً إلى الكعبة تركوا مقولات تُشعر “تشعرني أنا في الأقل” أنهم وهم يقطعون أديم الصحراء إنما كانوا على سلّم طويلٍ يصعدونه عتبة عتبة. كان أفقهم الذي يرومون الوصول إليه أعلى من آفاق الناس.
وقد هيأت لي مقاديري السعيدة أن أكون لعدة مرات مع الماشين في مثل هذه الأيام إلى كربلاء الحسين عليه السلام. الأولى كانت مهمة صحفية، ولذتها حتمتْ عليّ أنْ أكررها فقد ملأتْني بذخيرة معنوية لا أجد وصفاً لها إلا بمطابقتها مع هذا الفهم الذي أعتقده منذ شبابي، وهو أننا في كل ما نحياه ونفعله ونقوله إنما نصنع معراجاً لنا إلى الله، فنهاية كل كدح تنتهي إليه. بل حتى من لا يؤمن، حتى منْ لا يجد له ربّاً ومنْ يرى أن الربوبيّ “الذي هو مثلي” خفيف العقل، خرافيّ، أسطوريّ. حتى هؤلاء سيصلون ولن يجدوا شيئاً لكنهم سيجدون الله مع ذلك. تأمل في هذه الآية فهي درس عظيم في التأمل: (أو كسرابٍ بقِيعة يحسبه الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد اللهَ عنده..). حتى هؤلاء الذين أخطأوا هدفهم فإنهم صنعوا لهم معراجاً من دون أن يدروا،
وسيدرون بعد فوات الأوان.
الماشون إلى الحسين أدركوا لذةَ ما هُمْ فيه وإنْ كانوا لا يستطيعون النطق بها ولا التعبير عنها. الألسنة تتكاثر من حولهم ضحكاً وسخرية وتحشيشاً في مثل هذه الأيام من كل عام، وسيُنعتَون ككل عامٍ بنعوتٍ تحزنهم وتؤذيهمْ وتظهرهم في أعين أنفسهم أنهم أقلّ شأناً ومعرفة من منتقديهم.
لكنْ يا صديقي، إذا كنتَ مثلي وسمعتَ بأذنِ وجودك كلّه موسى بن جعفر يقول: “إنْ كانت لديك جوهرة وصاح كل الناس حولك أنها فحمة فلن تصبح فحمة. ستبقى جوهرتُك جوهرة».
ما هَمَّ إن سخروا وضحكوا منك ومني ومن هذه الكتابة ومن مشيك تحت الشمس اللاهبة.
أمشِ مع الماشين، فهذا معراجك، وهذا أفقُك. وهو أعلى من آفاقهم أجمعين. فلا تحزنْ.