رحيم عزيز رجب
الصدفة وحدها ربما هي التي تقودك إلى كشف ملابسات، قد تغيب عما كنت تعتقده خاطئة أو مبالغ بها في أمر (ما). لتعيش حقائق واقعية تلامس أرض الواقع، بعد أن كانت أخبارا وقصصا تتداول تسمعها هنا وهناك. والصدفة أيضا فقط تكون ذلك المجهر الذي يعرّي الأشياء لتراها عن كثب وعلى حقيقتها، بعد معرفتها وما يحوي جوهرها من سلب أو إيجاب. لتضعك بالصورة الواضحة التي لا غبار عليها..
هذه المقدمة البسيطة لواقع مر قادني لأكتب عن كثب وعن معاناة عايشتها، مرغما لا أشرا ولا بطرا في أحد قسام صيانة الكهرباء التابعة لوزارة الكهرباء لفترة أقلّها اسبوعين، ليست لهذه الأيام التي تمر وهي مرحلة (ربيع الكهرباء)، وهي عادة تكون عند نهاية شهر اب. وبداية شهر أيلول. بعد أن تخف ذروة الطلب واعتدال الجو وانخفاض درجات الحرارة. بل عند بداية (شهر آب)، وعن تلك الاجواء اللاهبة والأزمة الحادة والنقص في التجهيز، التي يعانيها المواطن من الحصول على عدد محدد من تجهيز ساعات الكهرباء، والتي لا تتجاوز أصابع اليد في أحسن الحالات أو اليد الواحدة. أحاديث وقصص تطرح. أبطالها المواطنون ولسان حالهم يحكى بعفوية وبترجٍ إلى موظفي الكشوفات أو التبليغات عن حالات العطل والانقطاعات، التي تحتاج إلى صيانة سريعة، ربما لا تستغرق دقائق معدودة بسبب الأعطال والأعطاب، التي أصابت تلك المحولات نتيجة الأحمال والتجاوزات، التي تكون السبب الرئيس لخروج الكثير منها عن الخدمة أو لقدمها. حتى تأخذ الحلول المؤقتة طريقها للمواطن فيكون ضحية الصيف الساخن، ليكتوي بحرها وسخونتها. كنت الشاهد والمراقب لما يحدث من أعمال صيانة ترقيعية، بسبب تواجدي ومتابعتي لإصلاح عطب أصاب محولة محلتي، فكنت متعايشا لتفاصيل الأحداث والوقائع، لهذا القسم التابع لوزارة تعد من أهم الوزارات الضخمة في امكانياتها في العدة والعدد. والفقيرة البائسة في عطائها والهزيلة في خدماتها. وفي متابعة سلسلة من الإجراءات، كلها كانت تدور بحلقة مفرغة واجراءات بسيطة كانت أولى على الوزارة أن تتخذها قبل موسم الصيف، فهي تعد من البديهات أو من ابجديات عمل هذه الوزارة. وهي الصيانة الدورية. بل في كل وزارات الكهرباء في العالم. وهي تجهيز المناطق بالمحولات الجديدة، واستبدالها بالقديمة والمستهلكة. والتأكد من صلاحياتها وإزالة التجاوزات والحمولات عنها. إلا أن شيئا من هذا القيبل لم يتخذ حتى تشتبه وتتشابه الأمور على اقسام الصيانة والوزارة، ما أن يلوح الحر بالقدوم وترتفع درجات الحرارة ذروتها. فتتخبط دوائر واقسام الكهرباء لتعيش فوضى صاخبة وحلول عشوائية تلقي بأعبائها وظلالها على المواطن البسيط، لتضعه في دوامة الانقطاعات المتناوبة ولوعة الحر. ليفر هاربا إلى من يظنهم الملاذ الآمن، لينقل معاناته ومن معه إلى دائرة الصيانة، حاملا همومه وكل ما يحمل من حجة وإثبات ودليل. وإن كان انقطاعا بأحد الاسلاك أو عطبا اصاب المحولة بالوقت والتاريخ المحددين حصل. في موقف يثير الشفقة، متأملا ومعتقدا أن (مفرزة تصليح) ستأتيه على جناح الريح، محملة بكل المستلزمات الاحتياطية المطلوبة للصيانة، محاطة بالفنين والمهندسين كما هو معمول به في دول العالم، والتي خصصت مبالغ ربما اقل مما خصص لهذا القطاع في البلاد. فيوعد بالخير وأن الانقطاع سينتهي عما قريب. ليعود بخفي حنين وصبر أيوب وحكمة لقمان الحكيم.. منتظرا ساعات وساعات في أجواء حارة قاسية لا ترحم. ليدخل مرحلة الإحباط واليأس ليعاود الكرة مرة تلو الاخرى على وعود وهمية. حتى اذا ما قدمت تلك المفرزة الموعودة باستقبال مفرح وسط كلمات مدح وثناء من الأهالي والمتضررين.
مقتصرة على فنيين اثنين، أو ربما واحد لتحمله على ظهرها مع تلك الأسلاك المستهلكة والمقطعة والمستعملة، وقد جمعت من هنا وهناك ولا ضمان لها، فهي ليست اسلاك نحاس وانما (المنيوم.. او ما يسمى (بالفافون)، فهي لا تدوم طويلا ولا تقاوم هذه الأجواء الملتهبة، لتكون عرضة للقطع في منظر يثير الشفقة والحزن والتناقض، مع ما يخصص لها من تخصيصات وحملات اعلامية ووعود بالاستمرار، وأن صيفا قادما سيختلف عما سبقه، وان ساعات القطع ستكون معدودة، لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة، وقد اتخذت كل التدابير والاجراءات.
فتعيش تحت عنوان (عناء الاستمرار بالعيش) هي ليست دعوة للتشاؤم ولا رحلة من التطير والقنوط، ولكن أن تمتد هذه المعاناة لعقدين دون اي عناء.... أصبح ذلك ضربا من الخيال.