المَشّاية.. قراءة المسافة ولذّاتها

ثقافة 2023/09/09
...

 عادل الصويري

ماذا يُريدون؟ وكيفَ يبتسمونَ في درجة حرارةٍ لا تقل عن 40 درجة مئوية؟ أنواؤهم كربلاء، ونسماتُهم حسينٌ يعرفهم ويعرفونه. يُحِبُّهم ويُحِبّونَه. يمشون مفرداتٍ أيْقَنتْ ما اعتقدهُ النشيد القائل: (آنه اعتقادي بدفترك عنواني). إنهم يُحرجونَ الشُعراءَ المُتخمينَ بالأساطيرِ، والكُتّابِ المشغولينَ بفراغِ الفاشنيستات. أما الذكاء الاصطناعي، فأدرك استحالة الاقتراب منهم، فلن تسمحُ له خطاهم بالعبث بحقيقتِها.
خطاهم تنظيرٌ مُتحرِّكٌ يُربكُ الحداثة الجامدة. هم فلسفةٌ ساخنةً تخرجُ من تنّورِ الكربلاءات. قدرُهُم إضاءةُ نبعِ الحياةِ، ومن معجزاتهم أنَّ الضوء لا ينكسرُ في الماء؛ لذلك هم راسخون، وليسوا عابرينَ مؤقتين، فقد حصلوا على العشبةِ التي أَعْيَت جلجامشَ من قبل.
بكى جلجامشُ كثيراً، لكنَّهُ لم يعرف أنَّ عشبتَهُ دمعةٌ تُذْرَفُ في الزمانِ والمكانِ الصحيحين. تُحاوِلُ الطبيعةُ كتابتَهم، وتُحبُّ هذه المحاولةَ أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر، غيرَ أنَّ الغرابةَ التي تفرضُ نفسَها على منطق الكتابةِ؛ تجعلُ الكلماتِ ساكنةً، فتتكفَّلُ الراياتُ بتحريكِها وتنقيطِها؛ لتأخذَ طريقَها إلى ذاكرةٍ هازئةٍ بالنسيان.
على شاشةِ القدرِ الكبيرة، يَبُثُّهُم الإمامُ الحسينِ في مانشيتات تكتبها قربةٌ نازفة على القناةِ الأربعينية، بتردد دمعةٍ تعيد تشكيل الضمير الإنساني، وعلى استقطاب المراقي العالية. هي القناة العجيبة التي عجزت الخفافيشُ عن تشفيرِها.
صارتِ المسافةُ تاريخاً، وَهُمْ مؤرِّخونَ ماهرون. إنَّهُم تاريخُ اللذَّةِ الاستثنائية. تاريخٌ يُقرأُ بالثنائيةِ الوجوديّةِ الحسّية والروحية. أمّا المسافة، فهي اللغة التي تُقرأُ اللذَاتُ بواسطتِها حين تتنامى وتُنتجُ طاقةً تشبه طاقة (نيرفانا) التي تعني الوصول إلى حالةِ الغبطة المستديمة بحسب جذور الكلمة الهندية السنسكريتية، ولا تختلف عنها إلا في جزئية اللذّة الجماعية عبر قطع المسافة سيراً إلى كربلاء، بينما تكون الغبطة عند الآخرين – البوذيين مثلاً – عبارة عن  سلوكيات تتعلق بالعزلة والاختلاء بالنفس، وتقول الحكايات أنهم يتوارون في كهوف جبال التبت؛ من أجل الحصول على أوقات أكثر للتعبّد والتأمّل. وكأنَّ قدر كربلاء، هذه البقعة الشاعرية من الكرة الأرضية أن تكون Refresh متواصلاً للذهنية، وسعياً دائماً لتجديد الأفكار، والتصالح الجاد مع الوضوح.
الماشونَ إلى كربلاء، يُقدمون بُعداً جديداً يتمثل بحالة من الاستيقاظ الروحي، حتى وإن صعب على المرء فهم كنه هذا الاستيقاظ كونه يستحيل على الكلمات، ويحتاج لتأكيدات هي ــ بحسب دراسات المتخصصين ــ أبعد من الحواس. غير أنَّ الماشين يقلبون المعادلة ويقدمون الاستيقاظ الروحي أنموذجاً محسوساً.
هذه الحالة الهائلة من الاستيقاظ؛ تأخذ سلماً تصاعدياً يبدأ من التراث صعوداً إلى الحاضر، وصولاً لتشكيل ملامح التصورات المستقبلية لحالة الوئام والتصالح بين أفراد الوجود البشرين وأبرز حالات الوئام والتآلف يقدمها كرنفال الزيارة الأربعينية، ويوفر بشكل لا لبس فيه كافة الاشتراطات الضرورية لبلوغ مرحلة الاستيقاظ روحياً، ومن ثم القدرة على الإمساك بلحظة الوعي التي تجعل الفرد خارجاً من دوائر الاغتراب التي مكث فيها طويلاً بفعل هيمنة الماديات، إلى فضاء يجعله متحداً مع مجتمعه، وهذا يذكرنا بالذي طالب فيه (جان جاك روسو) الثائر على كل قيم الفردانية العقلية أن يخضع الإنسان لسياقه الاجتماعي ووجوده فيه؛ ليضمن عدم استبداد الفردية به، وتحكمها بمصيره.