تصورات ثنائيَّة (المؤلف والمخرج) في مسرحيَّة عزرائيل

ثقافة 2023/09/09
...

 د. علاء كريم

يقوم المسرح على العديد من المفارقات، أبرزها قيامه على ثنائية (النص/ العرض)، أو (المؤلف/ المخرج)، والواقع أن الجدل حول هذه الثنائية، كان ولا يزال قائما منذ فترة طويلة بين عدد من المنظرين والمخرجين المسرحيين، ويزاد هذا الجدل عند تحديد الأولوية التي يكتسبها النص الدرامي أو نص العرض، أو رؤية المؤلف ورؤية المخرج، والأهمية التي تعطى وفق المتغيرات جعلت من هذه الثنائية الملامسة للأجناس الأخرى، إشكالية أمام متغيرات الصورة التي تجعل المتلقي أقرب إلى الفنون المرئية.
وقد يتجسد مفهوم ثنائية (المؤلف/ المخرج) ومستوى تأثيرهم في العرض المسرحي المعاصر، عبر ما يرافقهم من مشتركات وتصورات تمثل الاستمرارية ما بين الكلمة والصورة ليكونوا مزيج مركب لشكل الافعال والاساليب الجمالية التي تعكس مستوى الوعي وتأثره بالعملية التكميلية، وما اعتمدته منظومة الاشتغال على ضوء التقارب في انساق العرض المسرحي. ومثال على هذه الثنائية، ما قدم من عروض مسرحية بين المؤلف "د. مثال غازي" والمخرج "اسامة السلطان، تمثل ثنائية متجددة مغايرة، قد تفرز مجموعة من التساؤلات التي يمكن الإجابة عنها في مجمل العروض المشتركة بينهما، ومنها: "فصل من مسرحية ماكبث لم يكتبه شكسبير" و"المفتاح" وايضاً مسرحية "عزرائيل" التي عرضت في مسرح الرشيد، المسرحية من تأليف: د. مثال غازي، اخراج: اسامة السلطان، تمثيل: بشرى إسماعيل، جاسم محمد.
وهذه النماذج من العروض تبين لنا بأن لكل عرض مسرحي اسلوب وأهمية بوصفه مساحة تستوعب النماذج الفكرية التي تبين مفهوم الواقع عبر التفسير الدلالي والتأويلي. وما قدم في مسرحية "عزرائيل" تساؤلات فرزت مجموعة التصورات والآراء حول هذه "الثنائية"، إذ حاول المؤلف أن يصور لنا أن الموت هو الحياة الأبدية، أي أن هذا النوع من العروض المسرحية إنما هو مسرح مفعم بالحياة. وهذا ما أقدم عليه البولندي "تاديوش كانتور" في أعماله المسرحية وبوساطة فعل الغرابة، مما جعل ما يتم طرحه يشكل فعلا استثنائيا، لكن بالأخير تبقى الحياة هي مطلبه أولاً وأخيراً. أما إذا كان الموت متناغماً مع الحياة، فهذا لأن الحياة والموت في نهاية الأمر شيء واحد، ودون أن تكون هناك حياة لا يمكن أن يوجد الموت. وقد أطلق "كانتور"
تسمية "مسرح الموت" وذلك لأنه بدأ يتلمس تلك الفلسفة التي تتداخل بين الموت والحياة في مساحة واحدة، وفي زمن كان قد بدأ يشعر فيه اقتراب
الموت منه. وربما كان ذلك التداخل طريقته لقهر الموت.
وهذا ما اشتغل عليه، المؤلف "مثال غازي" والذي حاول أن يجعل من الموت عبر شخصية "عزرائيل" بوابة لبداية حياة جديدة، بعيدة كل البعد عن الحياة ما قبل الموت، والتي تتخللها الحركة والعمل والصراعات مع النفس وايضاً مع الآخرين، حياة مليئة بالصخب والافرازات النفسية، عكس ما يلعبه الموت وطقوسه في مسرحيات "صموئيل بيكيت" إذ يلعب الموت دور "الصمت" والموت والصمت هما وجهان لفعل واحد. حمل نص "عزرائيل" رؤية تكاملية تميزت وتفوقت على الرؤية الاخراجية، التي لم توظف المشاهد بشكل يتوافق مع الفكرة النصية المتضمنة للأشكال والكتل، التي يمكن لها أن تؤثر في المتلقي، بأنسيابيتها وديناميكيتها وتنوع خطوطها، المهم جسد المؤلف رؤى غير تقليدية واشكال غير معتادة، داخل النص التفاعلي, النص الذي تضمن الموت، والحب الذي هو أشبه بالموت السعيد، ويعبر هذا النوع من المسرح على الفعل الإنساني وعن الألم المستبد بالإنسان. وبالتالي الجمهور يميل لهذه العروض التي تحاكي الموت، لأنها تعتبره مسرحا تطهيريا ينظف الروح مما علق بأحزانها من الذكريات وصراعات الزمن الماضي. وفي هذا المعنى يتحقق الموت ويستمر رغم مسرات الحياة. ويشكل هنا النص الدرامي محور العملية الإبداعية المسرحية، ليكون عنصراً أساسياً تلحق به كل المكونات الأخرى، لتجسيد الرؤى الصورية في فضاء المسرح، وتوظيف الخطاب المسرحي عبر تحول البنية التكوينية للفضاء المسرحي، باعتبار أن النص يحمل من الدلالات الصورية والبصرية، التي تفعل وتركب عبر الممكنات الاخراجية، وتحريك العلامات المختزلة بداخلها.
حاول المخرج "السلطان" في مسرحية "عزرائيل" أن يعتمد فعل الانتظار، وهذا ما أكدته الممثلة "بشرى اسماعيل عندما طلبت من شخصية عزرائيل "جاسم محمد" أن يمهلها بعض الوقت لتكمل ما بدأته في حياتها، ومنه ما يخص عملها في التمثيل وتجسيد العديد من الشخصيات التي تحاكي المجتمع عن السعادة والحب رغم وجود الألم والحزن، يرد عليها "ملك الموت" أخذتي الوقت الكافي في حياتك، أين كنتِ حتى تحتاجي لوقت آخر، ويمضي الوقت حتى تقفل الابواب من قبل المجاميع، يتأجل موت السيدة وتأخذ بيد "ملك الموت" لتعرفه على واقع الحياة عبر مشهد جميل، تضمن حركة سريعة لصور ادائية لما يحدث في واقع الحياة وطبيعة الانسان، بالتالي لا بد وأن يكمل رسالته "ملك الموت" ويقبض روح السيدة المتمسكة بالحياة، عبر فتح البوابات التي تمثل بداية جديدة لأرواح لم تكمل ما بدأت به في الدنيا. إن انتظار الموت فعل محتم، يستدعي ذكريات الحياة بحلوها ومرها، ويحولها إلى نوع من الاعتراف الطقسي، الذي يشكل حالة تطهر الروح عن طريق الموت، ويمثل ايضاً الحياة بجوانبها المتعددة، وبصراعها مع المجتمع بصورة عامة.
رؤية اخراجية جيدة صورت لنا فكرة النص عبر اداء متميز، نسج من خلاله المخرج رؤيته عبر أداء "السيدة" وتأكيدها على استرجاع مواقفها التي تتحول إلى صور تسبق الموت. تميز اداء الممثلين وكان لحضورهم تأثير جمالي على الجمهور، بينما كانت السينوغرافيا بسيطة لا تتماشى مع أهمية النص وتنوع احداثه، وايضا بساطة التوظيف التقني من الاضاءة والموسيقى.
يحاول الإنسان قبل اللحظات التي تسبق الموت، أن يوصل رسالة يعترف من خلالها، بأننا جميعا نشعر بتأنيب الضمير، وربما يكون هذا هو العقاب الذي نستحقه، وإننا في لحظة الموت سنكون قد أصبحنا أنقياء وذوي كرامة. هذا ما حاول أن يصل به المؤلف إلى الجمهور وأن يبين فكرته القابلة للقراءة والتأويل، وأن يذكرهم بلحظة مهمة ستكون فاصلة ما بين فعل الخير والشر. نص جميل ومهم لما يحمله من ممكنات فلسفية يمكن لها أن توظف بشكل مرئي مغاير. مسرحية "عزرائيل" عينة لثنائية (المؤلف، المخرج)، وما تتبناه هذه الثنائية من تصورات حديثة، تعتمد على ضمان التكامل في لذة النص الدرامي وسحر العرض المسرحي، لأن كلا منهما يخدم الآخر ويستدعيه، انطلاقاً من مرحلة الكتابة إلى مرحلة الاخراج والتجسيد المادي من قبل الممثلين ومن ثم التلقي، ومع ذلك فإن هذا النص يظل مليئا بقيم عاطفية وجمالية لا يبرزها إلا سحر العرض.