الإنشاءُ الشعريُّ

ثقافة 2023/09/10
...

 محمد صابر عبيد

تقوم فلسفة الشعر أساساً وفي منعطف أساس وجوهري من منعطفاتها التشكيليّة على بلاغة الإيجاز، لأنَّ الفعاليّة اللغوية الشعرية تتحرّى العلامة والإشارة واللمحة والرمز والإيحاء، وغير ذلك من شؤون الشعر وخصوصيّاته؛ لذا فمن باب أولى فإن القصيدة ينبغي أن تبتعد كثيراً عن الإنشاء والشرح والتراكم اللغوي والاستطالات اللفظيّة، فهي تربك نصاعتها ورقيّها التعبيري والتشكيليّ وتحولها إلى إنشاء ينأى كثيراً عن مفهوم الشعر ووظيفته.

بمعنى أنَّ الشعر لا يحتمل الإنشاء اللفظيّ مهما كان جميلاً؛ ونحن هنا أطلقنا مصطلح «الإنشاء الشعريّ» تجوّزاً للإشارة إلى نوع من الكتابة يحاول أن يضخّ طاقة شعريّة في مفاصله، أي أنّه ينشئ عبارات فضفاضة ذات طبيعة شعريّة إنشائيّة لا تمتّ إلى الشعر بصلة ويحسب واهماً أنّ ما يكتبه

شعراً.

يأتي هذا الادّعاء من باب أنَّ قصيدة النثر لا تحتاج وزناً ولا تفعيلة ولا قافية فيمكن إدراج هذا الكلام الإنشائيّ في سجلّها، غير أنّ «قصيدة×النثر» هي «قصيدة» في المحصّلة وليست أقوالاً تُطلق على عواهنها بعبارات إنشائيّة منمّقة؛ كما يحصل كثيراً فيما سمّيناه «الإنشاء الشعريّ» الذي لا يأخذ من الشعر سوى طاقته الإنشائيّة العامّة، في حين تنأى قصيدة النثر أكثر من قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة عن المنطقة الإنشائيّة، لا بل تثور عليها وتخترقها وتتجاوزها كثيراً لأنّها تقدّم رؤية شعريّة استثنائيّة عميقة؛ تغادر أوّل ما تغادر منطقة الإنشاء والتعويم التعبيريّ الذي لا يقوم على نسج تشكيليّ شعريّ

قصديّ.

تحتاج قصيدة النثر في هذا المقام إلى عُدّة ثقافيّة وفكريّة وشعريّة غير عاديّة للوصول إليها وتدبّر خصوصيّتها الإبداعيّة الخلّاقة، إذ يعتقد كثير ممّن يتوهّمون كتابة الشعر في هذا السبيل أنّهم ينتمون إلى فضائها لمجرّد أنّهم يكتبون أقوالاً إنشائيّة خالية من الوزن والقافية، وفيها شيء من اللمحات الشعريّة عن طريق استخدام لغة قريبة من حسّ الشعر لكنّها ليست شعراً، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه هنا «الإنشاء الشعريّ» تمييزاً له عن «قصيدة النثر» ذات الخصوصيّة التشكيليّة البارعة، حيث لا يكتبها إلّا القليل النادر ممّن أدركوا نموذجها وعرفوا دروبها وخاضوا في مضايقها على النحو

المطلوب. 

ما يُكتب أو الكثير جداً منه على أنّه قصيدة نثر ما هو سوى إنشاء شعريّ لا علاقة له البتةَ بقصيدة النثر، فهو مجرد خواطر أو لمحات أو صور أو نفثات ذات طبيعة إنشائيّة عامة يسرّي فيها الكاتب عن مشاعر خاصّة قد ترد على خاطر كلّ إنسان

طبيعيّ.

وقد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعيّ العديدة بنشر وترويج كثير من هذه الكتابات وتسويقها لقرّاء بسطاء، يعتقدون بحكم قلّة الخبرة والثقافة والوعي أنّ هذا هو الشعر ويتلقّونه على هذا الأساس، على النحو الذي أقنع أصحابه أنّ ما يكتبونه ويلقى استجابة كبيرة من لدن قرّاء عاديين هو شعر، وبما أنّه يفتقد الوزن والقافية فهو إذن «قصيدة نثر» المعروفة في هذا السياق بأنّها تخلو منهما، وهذا ما يجعل هذه الكتابة تفترق عن قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة كي تنخرط في نشاط شعريّ جديد يدعى «قصيدة النثر»، من دون وضع أيّ اعتبارات لمفهوم الشعر وطبيعة الكلام الشعريّ وجوهر الحالة

الشعريّة.

ينقسم ما اصطلحنا عليه هنا «الإنشاء الشعريّ» على أقسام عديدة تتفاوت نصوصها في قيمتها الأدبيّة والفنيّة والجماليّة والموضوعيّة، ومنها القليل الذي يمكن احترامه بوصفه إنشاءً ذا قيمة كتابيّة تترك أثراً جماليّاً ما في دائرة القراءة، لكنّ الكثير منه مجرّد تهويمات في خضمّ ألفاظ وتعبيرات وجمل وحالات بلا ضابط، وتخلو من أبسط قواعد الوعي الكتابيّ القائمة على حسن التركيب والأداء والتصوير والتدليل، بحيث يدرك القارئ اللبيب من اللحظة الأولى أنّ صاحب هذا الكلام يهرف بما لا يعرف كي يقال له شاعر، والمشكلة أنّه يصرّ على أنّ ما يكتبه شعراً ويبقى مداوماً على كتابته فيسيء إلى نفسه كثيراً، حين يكشف عن لا وعيه في الوصول إلى قناعة بأنّ هذا الإنشاء الشعريّ لا يجعله يبلغ أدنى مراتب

الشعر.

لا يمكن إدراج القليل الجيّد من هذا الإنشاء في منظومة قصيدة النثر لأنّ مجرّد الإنشاء مهما كان جميلاً يبقى من دون مفهوم قصيدة النثر بكثير، فالإنشاء الجميل لا يصل مرتبة الشعر لأنّ هذه المرتبة ينبغي أن تمرّ بمستويات تعبيريّة وتشكيليّة فوق مستوى الإنشاء كي تصل منصّة الشعر، وفوق ذلك كلّه لا بدَّ لقصيدة النثر في مستوى مركزيّ منها أن تعوّض الكلام الشعريّ ما فقده من إيقاع وغنائيّة في الوزن والقافية، وهو ما لا يدخل ضمن مهام الإنشاء الجميل الذي يتقصّد أكثر ما يتقصّد قول كلام جميل يعبّر عن لحظة انفعال معيّنة وعابرة فحسب، من غير أن يدخل معترك الشعر ويتفاعل مع مضايقه ويصعد سلّمه الطويل

الصعب.

إنَّ المقصود بالإنشائيّة هنا هو كثرة القول بصدّد قضية معيّنة بعبارات وألفاظ مليئة بالصفات الكبيرة، ومحتشدة بالتكرارات التي لا تؤدّي وظيفة دلاليّة ذات قيمة، ومهووسة بجمل ذات صبغة صوفيّة تصعد سلالم التعبير الفوقيّ بلا تجربة ولا رؤية ولا فضاء حقيقيّ، وبوسعها أن تقال وتتكرّر في مقامات مختلفة وأحوال مختلفة بلا ضابط كتابيّ متين ورصين، ويمكن أن تنطبق على أي حالة بصرف النظر عن اختلاف الحالات وتغيرها وتنوّعها، فما على كاتبها سوى تدبيج الألفاظ نفسها مع تغييرات بسيطة كي يتكمل الإنشاء ويصير في حسابه نصّاً، وهو أبد ما يكون عن الشعر ولا قيمة إبداعيّة له

البتة.