فلترة البشاعة جماليَّاً

ثقافة 2023/09/10
...

 عبد الغفار العطوي 

لن يتوقع الناس في عالم القرن التاسع عشر الذي شهد ولادة الكاميرا أن يجدوا أن تلك الكاميرا كبيرة الحجم وباهظة الثمن ستحدث طفرة هائلة بعد قرنين تقريباً من عصرهم في مفهوم الصورة وفلسفة الجمال التي توختها الكاميرا بداية نشأتها، وهي التي لو أرادوا (جيل ذاك الزمان) أن يلتقطوا صورة لهم في جمع أفراد الأسرة ان يجلسوا في حالة ثبات تام عدة دقائق، ولكي يحصلوا على الإضاءة المناسبة بغية عدم حدوث أي غموض أو تشوه في الصورة، لهذا كانت هذه الصور لا تعكس الحقيقة.

 ولعل عام 1818 تقريباً الذي اخترعت فيه الكاميرا على يد جوزيف نيسبور نيسس صار عاماً فارقاً في النظر نحو فلسفة الفن  ومفاهيمها الأساسية والرابط بين الكاميرا وتطور تقنياتها والتحولات الثقافية التي أحدثتها الكاميرا في عصر التصوير التقاني، ليبدأ عصر التصوير الفوتوغرافي  في الظهور، ولم يدر في مخيلة أولئك الناس حدوث طفرات تكنولوجية بدءاً من براوني وبولارويد مما ادى إلى تسهيل الأمر بصورة أكثر سهولة، وأفضل ملاءمة، إذ كان تحول الأجهزة الحديثة إلى حجومها الخفيفة، قد جعل من فكرة الحاجة نحو تقنية التدرّب وصناعة المصور الموهوب تبطل وتنتهي ممارستها بتعبير بارت الذي علق على ميزة التصوير المحترف (أنا لست  مصورا أو حتى هاوياً، لا أطيق  الصبر على ذلك، لا بدَّ أن أرى إنتاجي من فوري) فما عادت الكاميرا تمثل عبئاً، من حيث أنه في إمكاننا حملها معنا في حقيبتنا.

ونحن ننتقل في جميع الأماكن، فهي دوماً قابعة في جيوبنا، بعد إن ألحقت وظيفتها من وظائف جهاز آخر تمثل بالهاتف المحمول، وبعد إن كانت الكاميرا سيدة عصرها انزوت مع بعض أدوات أخرى مثل ساعة الوقت وضبطه، فضلا عن ألعاب البلاي بوي وغيرها. 

وبعد أن أريد لها أن تبدأ عصرها الذهبي على أنقاض العصر الكلاسيكي للفن، بعد مغادرة عمالقة الفن التشكيلي الغربي في مرحلة النيوكلاسيكي دافيد وأنجر وديلاكروا الأسلوب الواقعي في نقل الأشياء كما تراها عين الرسام، لكن مع تفاصيل واقعية أكثر دقة وحرفيّة، مؤسساً لمعايير في علم الجمال الذي كثيراً ما يستخدم كمصطلح بنحو فضفاض للإشارة إلى فلسفة الفن، فحفل تاريخ الكاميرا بنهاية سريعة لحقبة الفن الواقعي، وابتدأ عصر الحداثة في الفلسفة والفن والآداب، وفرضت الصورة وظيفتها

الجديدة. 

في مفهوم عام، من حيث هي تنغرس في عمق الكينونة الإنسانيّة، وتتسرّب كالجوهر، جذورها في نسغ العالم الذي نحيا فيه، تعبيراً عن الحالة التي وصفها جاستون باشلار في أن الإنسان يعيش بالصور، لذا بدت عين الكاميرا هي الرؤيا المكتظة بطموح الإنسان في أن يلمَّ بتفاصيل العالم الخارجي ودقائقه رغبة منه في إفساح المجال لعين الكاميرا أن تحل مكان عين الرسام، في لمحة مثاليّة في فشل الرسام في خلق ظروفها، في (غرفة التظهير) رسم رولان بارت فكرة (التصوير المروض) يعمل المجتمع في عقلنة الصورة، وعلى تهدئة الجنون الذي يهدد باستمرار، بالانفجار في وجه من ينظر إليها (--) ويعلق بارت في مجال آخر (الموت المسطح) حول حمى التصوير الخارجي الذي ابتكرته الكاميرا الرقميّة المحمولة (كل هؤلاء المصورين الشباب الذين يتحركون في العالم، ويرهقون أنفسهم للإمساك بما يحد من أخبار راهنة، لا يعلمون بأنّهم وسطاء الموت وهذا هو المنحى  الذي يضطلع فيه زمننا بالموت). 

وهذا الابتكار هو إحدى طرق المتغيرات في عصر ما بعد الكاميرا، أي مغادرة البلاتو أو الاستوديو أو اللوكيشن المغلق المعد لصناعة الجمال الافتراضي، نحو الفضاء الحر الرحب غير المقيد بخصائص جماليّة مقننة، مما جعل من البشاعة نمطاً مفلتراً في مناهضة الجمال. 

فقد سمحت الكاميرا صغيرة الحجم وأجهزة الهاتف المحمول، وكاميرات الفيديو بأنماطها المعروفة لمستخدميها إنتاج الصور وقتما وأينما شاؤوا، مما جعل تلك البشاعة تتغلب على الجماليّة، وأعطت للكاميرا فرصة تجريب تصوير الحياة اليومية بواقعية صلفة وصادمة، بعد أن كانت الكاميرا تزاول نشاطها بعين جمالية، أجرت عمليات الفلترة على معالم العالم الخارجي بنمط معين، أولا على الأشخاص، فالشخص لا يكون دائماً جميلاً مهندماً، أو على أهبة

الاستعداد. 

والصور التي ربما طرحت في الماضي جانياً، هي في الحقيقة لم يتم زوالها، بل نستبدل بغيرها خلال أيام، حيث تتاح الفرصة لظهور ما كان مخفياً منها، فالتعبيرات الطبيعية والشعر الأشعث للذات الخفية تخلق دلالة عبر مرورها بفحص مدى حالتها الطبيعيّة، فموضوع الكاميرا في الفضاء من دون رقابة هو موضوع الصورة (شخص فوضوي) كلما يمضي الوقت عليه يكون أشعث لكن الصورة في البروفايل يظل عمرها الوجيز يتماهى مع الحالات التي يمرُّ بها المرء، ولما خطت الكاميرا قليلا، نحو مجالات الأنفوميديا، شكلت أكبر خطر على الحياة الحديثة، من حيث اسندت لها مهمات لم تطرأ على بال مخترعها.

 أصبحت أدوات لازمة في الرقابة والمعاقبة والتجسس ونشر الفضائح وهتك المخفي، وكلما أضحت ملكة أكثر من الملك فقدت عنصر إتقان مهمة الجمال، وخلق الجمال المفلتر (البشاعة) ولم تستطع المحافظة على أساسيات كيانها، منذ انخراطها في الهاتف المحمول، وتطفلها كعميل تقني مزدوج في وسائل التواصل الاجتماعي، بل مضت نحو خداع الحياة بمظاهرها الجميلة الخلّابة إلى واقع افتراضي مصنوع وفق متجر بلاي مدسوس في المحمول، أي أنه لم تعد لمعايير الجمال مصداقية، مما يهدد بتفشّي البشاعة كنوع من الجمال.