اللهجات المحكيَّة والسرد

ثقافة 2023/09/11
...

 عبد علي حسن

 لا يزال الجدل دائراً حول مشروعيّة وأهمية وأثر استخدام اللهجة المحكية في النصوص السردية الروائيّة منها والقصصيّة، وربما حتى الشعرية، وينقسم الكتاب والنقاد وحتى القرّاء أزاء هذا الجدل الى فريقين، الأول يذهب الى أن استخدام اللهجات المحكيَّة في النصِّ الإبداعي يحط من قيمته الفنيّة وأثره الإبداعي؛ وذلك لمحدودية تفاعل المتلقي مع هذه اللهجات الخاصة لمحدودية تداولها بمنطقة أو إقليم جغرافي من دون آخر، ومن ثمّ لا يتمتع هذا النص بالأثر الشمولي المتجاوز جغرافية المكان.
 كما أن هذا الاستخدام يُضعف من التأثير الجمالي لصياغة هذه اللهجات عند استخدامها في الحوارات السرديّة التي يتضمنها النص. إذ يرى هذا الفريق ضرورة إعادة إنتاج هذه الحوارات بصيغ جماليّة مؤثرة، أما الفريق الثاني فهو يذهب الى تمتّع هذه اللهجات بقوة دلاليّة للمعاني المضمرة التي تشكّلت عبر الصيرورة الاجتماعية المتواترة وتمكنت من جعلها ضمن المخيال الجمعي للمجتمع ومن ثمَّ فإنّ هذا الاستخدام يحرص على نقل الخصائص الشخصية والنفسية والاجتماعية والفكرية للمتحاورين.
وبمعنىً آخر فإنّ النصَّ السردي ينقل حقيقة التشكّل المتفرّد للشخصية السردية التي تتمثل الواقع الموضوعي، وبذلك فإنَّ الشخصية ستبدو أمام المتلقي واضحة المقاصد في تصرفها وفق مكوناتها النفسية والاجتماعية والفكرية وكذلك موقعها في التفاعل الاجتماعي، وهو ما يسعى إليه النص في تأكيد إخلاصه لمفردات الواقع أيّاً كان أسلوب ونوع النصّ السردي، وسيعكس قدرة النصّ على فهم الشخصية ودورها في عملية السرد. وبين هذين الفريقين انبرى فريق يتبنّى لغة ثالثة قادرة على توصيل خصائص الشخصيات لأوسع فئة من المتلقين من دون اقتصارها على فئة اجتماعية من دون أخرى لتقترب من الواقع المحكي، وبقطع النظر عن وجهات نظر الفرق الآنفة الذكر فإنّنا نرى أن البحث في جوهر هذه الجدليّة منوط بكينونة اللغة بنوعيها الفصيح والمحكي مع الأخذ بنظر الاعتبار ماطرًا على هذه اللغة من مفاهيم ووجهات نظر اللسانيين التي مافتئت ترفد الدرس اللساني بطروحات جديدة منذ فرديناند دي سوسير مرورًا بالشكلانيين الروس والمبدأ الحواري الباختيني والتداوليين وحتى الآن فضلاً عن إسهامات الدرس اللغوي في التراث العربي بمفاهيم جديدة ومتقدمة تتجاوز المهمة التوصيلية وبأنّها أداة تواصل بين أفراد الجماعة الواحدة.
يكاد يجمع كل المهتمين بعلم اللغويات على تعريف للغة لايقبل النقض على أنها نسق من الإشارات والرموز، تشكّلُ أداة من أدوات المعرفة، وتعد اللغة أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة.
 ولعالم اللغة بن جني - وهو من أعظم اللغويين الذين قدّموا أنموذجًا مشرّفًا لمباحث اللغة في التراث العربي المعرفي - تعريف للغة في كتابه المهم (الخصائص) فيشير في باب (القول على اللغة وما هي) «أما حدّها:  فإنّها اصواتٌ يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم، هذا حدّها» (الخصائص،ج1 ص33).
وهذا التعريف يتفق كثيرا مع آراء الوظيفيين في الغرب، كما أنّه غنيٌّ بالقيم التداوليَّة، وأنّها ذات قيمة نفعيّة، تعبيريّة، ويتشابه تعريف ابن جني للغة مع آراء التداوليّة في الدرس اللساني الغربي الحديث، وهو دراسة اللغة حين الاستعمال، اي: حينما تكون متداولة بين مستخدميها، وتعزيزا لهذه التعريفات فإنّنا نورد تعريفا مهما لستالين الذي يشير إلى أن اللغة هي التعبير المباشر للأفكار، ويظهر مدار الاتفاق في التعريفات الآنفة الذكر للغة وسواها من التعريفات هو أنّها أداة اتصال وتوصيل وذات وظائف نفعيّة/ براغماتيّة ومعرفيّة اختصّت بها سائر العلوم الإنسانيّة من أدب وفلسفة واجتماع، واذا كان الكلام هو السلوك والنشاط الذي يقوم به الأفراد في تفاعلهم الاجتماعي والفكري فيما بينهم، فإنَّ اللغة الشيء الرئيس والمعيار لذلك السلوك، والشيء الذي يضع القواعد التي تنظّم هذا النشاط، وهو ما أشار إليه دي سوسير وفريقه بين اللغة والكلام وهو ما ذهب إليه أيضا ابن جني في تعريفه الآنف الذكر للغة، ووفق معطيات وجهات النظر النقديّة المعاصرة التي تشغل حيزاً مهماً في الدراسات والبحوث النقديّة ذات الصلة بإشكاليّة استخدام اللهجات المحكيّة في النصوص السرديّة هي التداوليّة والمبدأ الحواري لباختين الذي أسفر عن التنبيه إلى السرد المتعدد الأصوات/ البوليفونية، وجدير بالذكر أن آليَّة وتقنية الحوار في الفنون الدرامية قد استعارتها النصوص السرديّة من رواية أو قصة قصيرة، إذ يظهر الحوار بصيغة تداوليّة وحجاجيّة في أحيان أخرى لتعبّر عن وجهة نظر الشخصيات المتحاورة وبما يتناسب وتكوينها الفكري ومكانتها في النظام الاجتماعي، فيقدم رائد الدراسات التداوليّة المعاصرة جين اوستن التداوليّة على أنّها جزءٌ من علم أعمّ وهو دراسة التعامل اللغوي من حيث هو جزء من التعامل الاجتماعي، وبهذا المفهوم ينتقل باللغة من مستواها اللغوي إلى مستوىً آخر، هو المستوى الاجتماعي في نطاق التأثير والتأثر، فالتداوليّة تدرس الاتصال اللغوي في إطاره الاجتماعي.
وبهذا الصدد يقول الدكتور صلاح فضل في كتابه (بلاغة الخطاب وعلم النص) / الشركة المصرية العالمية للنشر، (فالتداوليّة إذن تعنى بالشروط والقواعد اللازمة الملائمة بين افعال القول ومقتضيات المواقف الخاصة به) أي العلاقة بين النص والسياق، ومن الأسئلة المهمة التي تجيب عنها التداوليّة هو ما علاقة الإنتاج اللغوي بظروف الاستعمال؟، وكيف نتكلّم بشيءٍ ونحن نريد شيئا آخر؟ ومن هو المتكلم والموجه إليه الكلام؟، فالاجابة عن هذه الأسئلة تعني ضرورة فهم مكونات الشخصيات التي تقوم بالفعل الكلامي، ومكانتها في النظام الاجتماعي وكذلك مستواها الفكري، ولفهم كل ذلك فإنَّ اللغة كفيلة بإظهار مكنونات الفعل الكلامي ومقاصده، ولعل الركون إلى هذه الموجهات التداوليّة في قراءة الفعل الكلامي المتداول بين شخصيات النص السردي سيفضي في النهاية إلى خطأ أو صواب استخدام اللهجات المحكية بعدّها جزءاً من الواقع المحكي للوصول إلى صحة استخدام هذه الأفعال أو عدمها في التداول القولي الذي يتضمنه السرد في بعده التحاوري. إذن من الممكن الاستفادة من الدرس التداولي في التعرف على مطابقة الفعل الكلامي مع المكون الاجتماعي والفكري للشخصيات السرديّة، وهنا أيضاً من الممكن الاستفادة من باختين في تأكيده على ضرورة تمتع الشخصيات في النص السردي باستقلاليتها عن المؤلف حين يراد منها الكشف عن مكنونات تفكيرها ومستوى موقعها في النظام الاجتماعي والطبقي ومن أجل تحقيق هذه المطابقة يلجأ النص السردي الى منح الحرية للشخصيات في التعبير عن نفسها وفق بنائها سرديا داخل النص، لذلك كانت اللهجة المحكية هي السبيل الى تحقيق هذه المطابقة خاصة في النص السردي المتعدد الأصوات/ البوليفيني نظراً لما تتمتع به هذه اللهجات من قوة دلالية راكزة في المخيال الجمعي قادرة على توصيل أفكار الشخصيات، فضلاً عن تكوين وجهة نظر أزاء هذه الشخصية أو تلك، ولم يتوقف استخدام هذه اللهجات في تقنية الحوار السردي وانما امتد ذلك الى السرديات الأخرى كالسيرة الذاتية والرواية الوثائقية الجديدة التي مثّلتها أفضل تمثيل الروائيّة والصحفيّة البيلاروسية سفتلانا الكسموفتش الحائزة جائزة نوبل للآداب عام 2015 عن مجموعة رواياتها الوثائقيّة التي وصفتها لجنة منح الجائزة بأنّها البوليفونية الجديدة، حيث اعتمدت في رواياتها على الشهادات والاعترافات للشخصيات ذات الصلة بالجنود الروس المساهمين في حرب أفغانستان خاصة رواية (فتيان الزنك) فقد نشرت شهادات الجنود العائدين من الحرب والضباط الروس والأمهات والزوجات والممرضات كما هي من دون إعادة كتابتها بلغة الروائية وموجهاتها الآيديولوجية وحتى بأخطائها اللغوية والاملائية وارتباك صياغتها لتكون لدى المتلقي معرفة كاملة بمستوى الشخصيات الاجتماعي والثقافي والفكري، وهو ما افتقرت إليه سردية (في سوق السبايا) للشاعرة والكاتبة العراقية دنيا ميخائيل التي أعادت انتاج الشهادات بصياغة لغوية متقدمة وفق منظور الكاتبة من دون أن تتركها كما هي وكما كتبتها شخصيات المسرودة، وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلى العديد من الروايات والقصص القصيرة العربيّة والعراقيّة التي لجأت إلى استخدام اللهجات المحكيّة لتقرب الشخصيات من الواقع المحكي الذي تمثّلته تلك المنجزات السردية، وبهذا الخصوص تتجلّى تجربة الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ في رواياته التي اتخذت من الفضاء المتّسع للحارة المصرية الشعبية ساحة للأحداث والوقائع التي تقع للفئات المسحوقة والمهملة كما (اولاد حارتنا) والثلاثية وغيرها، والروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان في (النخلة والجيران)، و(خمسة اصوات) الذي وجد في الأمكنة الشعبية والشخصيات المحرومة والمهمشة عالماً روائياً خصباً للاقتراب من هموم هذه الشخصيات والتعبير عن مشكلاتها وطموحاتها.
فقد استشرف هذان الروائيان وجهة نظر التداوليّة والسرد المتعدد الأصوات من قبل أن تدخل هذه المفاهيم حيز المشهد الروائي والنقدي العربي والعراقي، إذ كان اهتمامهما بالأسر البائسة التي تعيش على هامش التاريخ والاقتراب من الفهم العميق لتلك الشخصيات انعكس بشكل واضح على اختيار اللهجة المحكية المصريّة والعراقيّة لتستوعب التركيب الاجتماعي والتكوين الفكري ولتعبّر عن أفكار الشخصيات بشكل مباشر امتلك القدرة على تمثّل الواقع المحكي وبما يتضمنه من حكم وأمثال وصياغات لغويّة كرّستها الذاكرة الجمعيّة وصارت جزءاً من صندوق المخيال الجمعي وعكس إلى حد كبير التكوين الثقافي للمجتمع تجلّى في طريقة تفكير وتعبير الشخصيات، وبذلك فقد امتلكت هذه الروايات مشروعية اختيار اللهجة المحكية وسيلةً في تقريب الوقائع والتكوين الاجتماعي والثقافي وحتى الطبقي إلى ذهنيّة المتلقي، كما أنّها قدمت فهماً واضحاً من قبل الروائيين لما يجري في أرض الواقع من صراعات اجتماعية وطبقية. وانطلاقا من هذا الفهم في استخدام اللهجات المحكية في النصوص السردية فقد ظهرت لاحقا العديد من النصوص العربية والعراقية التي تمكنت من توصيل اللهجات المحكية المعتمدة لغة للتحاور إلى خارج جغرافية إنتاجها.