الاعتراف بما قد يكون صعباً

ثقافة 2023/09/11
...

 ياسين طه حافظ

عرفنا، قراءة أو إخبارا أو درسا، أن الانسان كائن ثقافي. ولايضاح معنى الجملة نقول إن مكوناته العقليّة والمفاهيميّة هي التي تقيّمه. وهذه تطورت بتطور تجاربه ومديات ونوع اتصالاته مع، مفردات الطبيعة ثم مع مفردات الجماعات حوله. ويمكن ايجاز نتائج ذلك بان الفارق بين إنسان وآخر، في البلد الواحد او بلدان مختلفة هو فارق ثقافي، لا عرقي ولا بايولوجي. المورّثات الإنسانيّة أصلا واحدة. الاختلافات نشأت من الاختيارات الثقافيّة. والاختيار الثقافي أساسا نوع من التمرّد على ضرورة، معنى هذا تمرّد على واقع وظرف وبيئة باختيار الملائم منها.
هو رفض للمتوافر او الجاهز. وتبنٍ لحصيلة أو قرار الاختيار. لم يعد الإنسان يتلقى الجاهز ولكنّه صار يختار. وبهذا التدخّل أو الاختيار بدأ عمل الثقافة. باتضاح مضمون الثقافة صارت تدل على المعلومة والمذاق والأفضل والمُتمنَى. الثقافة اذاً انتقالة من الطبيعة الى التأويل ومن الحاجة المادية الى معناها. في الثقافة يجري تحول خفي في مضمون المفردة. وفي الثقافة لا يبقى الإنسان ابن الطبيعة وحدها لكنّه يصبح ابن تطوره الفكري وابن مؤولاته.
التباينات الاجتماعيّة هي وراء اختلافات الفهم والتصور وحدود او نوع الدلالة. المستوى الحضاري للمجتمع له هنا دوره ومن ذلك اقتراب الثقافة الى الابستمولوجيا الاجتماعيّة. لا ثقافة بلا معرفة ولا معرفة بلا مجتمع وخبرة. ولكي لا نضيع وتختلط علينا المفاهيم، المعرفة تستند الى قطب شاخص وصلب، ذلك أنّها تنطبق على ما هو إنساني. والثقافة منها تنطبق على ما هو إنساني ولكن فردي. وهذا ما يميّز وحدة الإنسان ضمن تنوع أنماط حياته ومعتقداته. في هذا الكلام فردانيّة واضحة. هذه الفردانيّة في رأينا أتت من تجمع وحدات معرفيّة وفنيّة معينة تميّز صاحبها. لا يمكن تصور شخصية الإنسان، الفرد، من غير ثقافته او مكوناته
الثقافيّة.
ومقولة احترام ثقافة الشعوب، في جانبها الايجابي تعني الحفاظ على تلكم الثقافات الفرديّة في استيلاد التصور واستخلاص الايحاء والمعنى. احترام ثقافات الشعوب إذن، ليس من باب احترام وجودهم السياسي ووضعهم الاجتماعي. (هذا ما يجب تغييره او تطويره..) ولكن من باب الاهتمام بنشاط وإشعاع الجوهر الثقافي الكامن لهذه الثقافة او تلك. أما استهداف الثقافات المحليّة او الوطنيّة قصد التغيير والتطوير فيأتي من باب تخطي العقبات وكشف الطريق للهدف لأنَّ الثقافة هنا ذات فعل مضاد او مقاوم. في المنطق المقابل أن يتنحى البدائي أو القديم عن طريق الجديد.
هذا العرض الذي لا أدّعي ابتداعه قدر ما تعلمته او درسته، يضعنا أمام السؤال الصعب: وكيف نصف ثقافتنا؟، ثقافتنا نحن، في بلدنا، اليوم، وكما هي؟.
لنكن مدرسيين قليلا ونقدم تفاصيل تساعدنا على الايضاح: مرَّ هذا المفهوم الثقافي بمرحلتين، الأولى منبثقة من المفهوم السائد للأمة والشعور العام بالانتماء. هذا الفهم العام حرّك من بعد مفهوم الثقافة باتجاه الثقافة الإنسانيّة والتي أشاعتها وأكدت على مضمونها أواصر الارتباط بالفكر الإنساني العام والدعوة الأمميّة ومجموع الأفكار التقدميّة وحياة الشعوب ومصائرها.
بين هذين كان «نوع» من تميز او نوع من ارستقراطية النخب الثقافية الناشئة (فنية وادبية مع شيء من الفكر السياسي..). وهذا ما شهدناهُ في بعض مراكز المدن، لا سيما العاصمة بغداد. وهؤلاء كانوا ممرَ التواصل مع عنوانات الثقافة الغربية، الانكليزية والامريكية وبعض الألمانية. ارستقراطية هؤلاء المثقفين متأتية إما من الدراسة في الخارج أو من السفر والإقامة ولا نعدم مظهريّة كاذبة عند بعضهم، من باب الزهو والتفوق.  
مدى تجدد الثقافة او تحديثها اعتمد أساسا على هذه المجاميع التي كانت بما تعلن وتكتب ترسم حدود وغنى الحراك الأدبي والفني. معهم أعداد المتشبهين بهم أو هواة ومحبي الثقافة الحديثة بحدود ما يصلهم منها، مما وسّع قليلا من دائرة هؤلاء المثقفين.
هذا التحديث، للاسف لم يكن نتاج تقدم او تطور عموم الشعب والبلاد. وهو هذا اساس الإشكال الذي صحب الثقافة العراقية من بعد. يمكن وصفها بأنّها ثقافة نخبوية متقدمة بحكم مؤثرات خارجية- معرفية وذوقية وفنية. وهكذا ثقافة، عموماً، تنتج تمثلات متعددة أو مختلفة عن نفسها وتحمي نفسها بأن تعزلها بلياقات وسلوك فيهما نوع من الترفّع المدني.
لكننا اذا أبعدنا المؤثرات ومنها «المُتَخيَّلة» عمّا في عواصم العالم، يتحدّد جدًا حجم الظاهرة ويتضاءل محتواها الحقيقي، لا المُدَّعى او المزهو به. ولو تذكرنا نماذج المثقفين والفنانين والمهتمين بالحداثة آنذاك لانتبهنا الى تجانسات مؤقتة بينهم. هذه التجانسات آنيّة عالقة ليس لها سند او قاعدة اجتماعيّة هم في واقعهم المادي غيرهم متأنقين في الصالة او في المناسبة. ليس لهم امتداد ثقافي حي في الأوساط العامة القريبة غير كتبهم القليلة جدًا وأحاديثهم ومقالاتهم او تعقيباتهم على ما يعرض وما يُنشَر. الحقيقة قليل من ذلك ذو قيمة يمكن أن تؤسس لثقافة جديدة او لفن جديد.
ما هي النتائج الحقيقيّة لتلك الانشغلات؟ ما نزال غير بعيدين عن ذلك الوضع. واليوم، وكي نؤكد الحال ومُؤدّاها، لنوقف ما يصل من المترجمات من مصادر ثقافيّة وإبداع وأفكار وأفلام وفنون، ولنرَ حقيقة ما يبقى، ومستوى ما يبقى. إنّ الأدب والفن وكل الدراسات الحديثة تعيش على ما يصل وتتغذى على مؤونة تأتيها. وهي هذه حقيقة «نوع» و «حال» الثقافة المحليّة السائدة.
إنَّ اتجاهات الثقافة اليوم ليست بأيدينا. نحن نوجَّه ثقافيا ونُزَوّد ببعض خليط يصلنا من تلك الثقافات وندّعي عائدية ما يصلنا! من غير هذا الذي يصل، لن تبقى ثقافة حديثة. سنرى قديما فقدَ جُل طاقته وأهميته ولغواً من أو عن شتيت مصادر لا رابط بينها فاذا تحدثنا عن حقيقة ثقافة محلية حديثة، سيكون حديثنا فاجعا!.
قبول الحقائق المؤسفة صعب والإقرار بها كتابة مسألة موجعة، فهل أقول عذرا على ما بدر أم أقول: أسفا، هو هذا واقع الثقافة وعلينا
الإقرار به!