المدن الصناعيَّة وفرص نهوض قطاع الصناعة

آراء 2023/09/11
...






   أ.د. فلاح خلف الربيعي

 من بين التساؤلات التي يطرحها المواطن العراقي المختص وغير المختص هذه الأيام، هو التساؤل عن الجدوى من إقامة المدن الصناعية، وهل ستسهم في النهوض بالصناعة الوطنية، وقد برز هذا التساؤل بشكل خاص بعد أن أقر مجلس النواب العراقي قانون المدن الصناعية رقم (2) لسنة 2019 في 2/5/2019 الذي أشار إلى أن الهدف من سن القانون، هو استخدام المدن الصناعية لتوجيه عملية الاصلاح الاقتصادي، من خلال تشجيع مشاركة القطاع الخاص المحلي والأجنبي في استثمارات المدن الصناعية والشراكة مع القطاع العام وجذب وتحفيز انتقال الأنشطة الصناعية القائمة من المدن والتجمعات الصناعية إلى تلك المدن الصناعية. ويمتلك العراق حاليا عدة مدن الصناعية موزعة بين محافظات البصرة، ذي قار، الأنبار، نينوى، النجف وكربلاء، وقد حظيت هذه المبادرة باهتمام معظم دول الجوار، خاصة إيران وتركيا والأردن والسعودية وسوريا، واخذ مسؤولو هذه الدول بتوقيع الاتفاقيات والتفاهمات مع الحكومة العراقية، بشأن هذه المدن الصناعية ومدى مساهمتها في تسويق سلعهم إلى السوق العراقية، ويأتي هذا الاهتمام نتيجة لامتلاك العراق لمجموعة من المقومات، كالموقع الجغرافي والموارد الاقتصادية وراس المال البشري والسوق الواسعة.
أن أي سيناريو متفائل حول قدرة هذه المدن على تحقيق أهدافها، وبخاصة قدرتها على جذب الاستثمار الأجنبي وتشجيع التصدير، ومواكبة التطورات التكنولوجية، وتشجيع الابتكار واساليب الإدارة الحديثة، الذي سيسهم بالتأكيد في نهوض القطاع الصناعي، يصطدم بعدد من المعيقات، من ابرزها ضعف الثقة في عملية الاستثمار في العراق، التي تعززت بفعل نقص الكفاءة والنزاهة، فضلا عن ضعف الإرادة لدى القوى التي تتولى إدارة المؤسسات الاستثمارية، التي تفضل الاستمرار في الاعتماد على الاستيراد، ربما لان أجندتها لا تلتقي مع الاجندة الهادفة للنهوض بالقطاع الصناعي، بعد أن اسهمت في تكريس مظاهر الفساد الاداري والمالي وهيمنة الروتين، علاوة على دورها في إعادة انتاج حالة عدم الاستقرار السياسي وتغذية الصراع على مواقع النفوذ وعلى مصادر تحصيل الريع، فقد اسهم هذا المناخ في ضعف الحوكمة وضعف الشفافية وتعطيل العديد من القوانین ذات الصلة بعملية الاستثمار كقانون المنافسة ومنع الاحتكار، وقانون حماية المنتوج الوطني، وقانون حماية المستهلك، وقانون التعريفة الجمركية، وقانون دعم الصادرات، وقانون العلامات التجارية وقانون تسجيل الشركات، فضلا عن قانون حماية الملكية الفكرية، وانعكس كل ذلك بشكل ارتفاع في عنصر المخاطرة في عملية الاستثمار، ناهيك عن الارتفاع في تكلفة المعاملات الإدارية، التي يتحملها المشروع قبل البدء بالعمل، هذا إلى جانب المشاكل ذات الصلة بتقادم البنى التحتية والنقص الشديد في الخدمات الاساسية وفي تجهيز الكهرباء، واسهم كل ذلك في تدهور مناخ الاستثمار. وتهيئة الظروف الكفيلة باستمرار اعتماد العراق شبه تام على الاستيراد، واستمرار توقف عدد كبير من المصانع الكبيرة المملوكة لوزارة الصناعة والمعادن التي بلغت حوالي 85 مصنعا. اما المصانع المتوقفة التابعة للقطاع الخاص فبلغت 18 ألفا و167 مصنعا - كبيرا وصغيرا- وهذه الأرقام تفسر سبب التدهور المستمر في مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلى التي وصلت الى اقل من 1% في العقد الأخير.
في ظل تلك الحقائق ينبثق السؤال الجوهري حول مدى قدرة المدن الصناعية المزمع انشاؤها على تحقيق مثل تلك الأهداف وفي مقدمتها انتشال القطاع الصناعي من واقعه المر.
إن فرص نجاح هذه المدن في ظل السيناريو الذي يفترض استمرار الظروف الحالية ستكون ضئيلة، اذا استمرر توزيع المناصب الحكومية وفق مبدأ المحاصصة، وإن استمرار هذا السيناريو، يعني ان تلك المدن الصناعية ستنحى نحو التوجه الاستهلاكي والتسويقي وتبتعد عن أهدافها ذات التوجه الإنتاجي، وتزداد احتمالية هذا السيناريو في ظل استمرار ظروف العجز في الموازنة العامة، وما سيتبعه من ضعف الدعم وضعف الحوافز المتوقع أن تقدمها الحكومة لهذه
 المدن.
وفي الختام يمكن القول إن فرص نجاح هذه المبادرة ستزداد، اذا تم وضعها ضمن الاطار الستراتيجي الشامل للتنمية الاقتصادية المستدامة، الذي يهدف إلى تحقيق التنوع الاقتصادي لزيادة نسبة مساهمة قطاعات الإنتاج غير النفطي وبخاصة الزراعة والصناعة وقطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة نسبة مساهمة الإيرادات غير النفطية في الإيرادات العامة وتقليص الاعتماد على إيرادات
 النفط.