حكايا الجنود لا تشبه خرافات الجنرالات

ثقافة 2023/09/11
...

  باسم سليمان
حكايا الجنود عن الحروب لا تشبه خرافات الجنرالات. من هذه الحقيقة، كتب الكاتب النمساوي إريك ماريا ريماك، الذي خاض الحرب العالمية الأولى كجندي، من خندق إلى خندق، روايته: "لا شيء يحدث على الجبهة الغربية" والمقصود بالجبهة الغربية خط الاشتباك بين ألمانيا وفرنسا، الذي تحوّل إلى رحى تطحن جنود المعسكرين المتقاتلين، من دون أن يكسب أحدهما شبرًا زيادة. ومن هنا جاء العنوان المتهكم للرواية.
هذه هي المرة الثالثة التي تقتبس فيها الرواية سينمائيًا، وما يميّز هذا الاقتباس، أنّه جاء من الألماني إدوارد بيرجر كإخراج وسيناريو للفيلم وبالعنوان ذاته. إذن، نحن أمام رؤية إبداعية من الطرف المهزوم في الحرب، حيث تظهر الهواجس لإعادة كتابة التاريخ عبر تبرير الهزيمة الألمانية، لكن بيرجر انتصر للجندي من الطرفين المتقاتلين؛ خاصة في المشهد الذي يطعن الجندي بول بومر(فيليكس كاميرر) جنديًا فرنسيًا، والذي يرصد الفيلم سيرته في الحرب، هو وأصدقاؤه، الذين صدّقوا مكنة الدعاية الألمانية، فتطوّعوا في الحرب، لكن ما إن وصلوا إلى الجبهة حتى قالوا: (ليس هذا ما حلمنا به). طعن بومر الجندي الفرنسي بلا هوادة، لكنّه في النهاية اقترب منه، ليكون معه في لحظاته الأخيرة، فبحث في جيوبه عن وثائقه، ليكتشف أنّه والد لطفل، وأنّه لا فرق بينهما، إلا بالبذلة العسكرية والشعار، فلو خلعا تلك الهيئة، لعادا إنسانين لا عدوين.
لقد كان ما عاشه بومر وأصدقاؤه كابوسًا، لقد تساقطوا من حوله كالشهب من دون أمنيات، إلّا العودة إلى البيت. ولولا صديقه كات ( ألبريشت شوش) الجندي الأقدم، لكان بومر حقّق سخرية أحد الضباط منه، بأنّه سيموت من اليوم الأول للحرب، لكنّه ظلّ حيًا ليرى الهدنة التي وقعّت بين الألمان والفرنسيين سارية المفعول، بعد الجهود التي قام بها المستشار الألماني ماتياس إرزبيرغر (دانيال برول دور)، وفريقه التفاوضي مع الضباط الفرنسيين للتحصّل على معاهدة استسلام تنتهي بموجبها الحرب، على الرغم من الشروط القاسية، التي ستمهّد لقدوم هتلر في ما بعد، لكنّهم بتوقيعها حقنوا الكثير من الدماء، التي كانت ستسقط في ذلك المكان الهادئ المسمّى الجبهة الغربية.
لم يكن الفيلم إظهارًا للمكنة الحربية، مع أنّ بيرجر أبدع في ذلك، فالخنادق التي استخدمت لأول مرّة بشكل مكثّف وستراتيجي في الحروب، ظهرت كأنّها حفر مقابر جماعية. والخوذة الحديدية التي ارتداها الجنود لأول مرة أيضًا، أنقذت بومر من رصاصة قناص، لكنّها ظلّت تذكّره بدينها الذي سيسدّده في اللحظة الأخيرة قبل إعلان الهدنة. أمّا الدبابات، فقد كانت أعجوبة الحرب العالمية الأولى، التي لها القدرة على زلزلة الأرض على وقع جنازيرها، ساحقة الجنود، محوّلة إياهم إلى طين. بينما كانت الغازات السّامة الأعجوبة الثانية، التي كانت تترك الجنود كأنّهم نيام، وبموجبهما تم القطع مع أنماط الحروب الكلاسيكية، وإظهار تغوّل آلة الحرب العسكرية إلى الحدّ، الذي ينبئ بإفناء البشرية، كما رأينا مع القنبلة الذرية في فيلم أوبنهايمر.
يبدأ بيرجر فيلمه بمشهدية معاكسة لِما يودّ طرحه بالفيلم، حيث المشاهد الرائعة للجبال والغابات والحيوانات. وبعد ذلك ينتقل إلى تلك الحفر التي تنز دمًا، ومن ثم إلى معمل يعيد تأهيل بدلات الجنود، الذين قتلوا لتتلاءم مع الجنود الجدد، الذين سيورّثونها إلى جنود آخرين، بعد أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة.
تتشظّى أرواح وأجساد رفاق بومر الذين لم تبق الحرب من مدنيتهم إلّا الخوف، فتظهر وجوههم، وكأنّها أقرب إلى الزومبي، فقد كانوا شبابًا، ما زالت بقايا الطفولة عالقة بهم، لم يختبروا بعد قساوة الحياة، لكن أن تنضجهم الحرب، فأيّة حكمة ستكون لهم؟ أصيب أحد رفاق بومر، وقبل أن يقطعوا ساقه، طعن رقبته بالشوكة حتى الموت؛ تلك الشوكة التي كانت رمزًا للمدنية على موائد الطعام. يمضي الفيلم من إشارة إلى رمز، مؤكدًا على عبثية الحرب، فكات ذلك الجندي الذي لعب دور الأب لبومر، استطاع أن يهرب من كل فخاخ الحرب، لكنّه لقي حتفه بعدما أطلق طفل فرنسي النار عليه، لأنّه سرق البيض من مزرعتهم. وبينما كان يحتضر سأل بومر عن الكلمة التي تتوافق مع كلمة: عبثية، فأجابه بومر: بأنّها رصاصة. كان كات يؤلّف أغنية ويبحث عن قافية مناسبة!.
لقد أراد بيرجر إظهار الجندي الألماني بأنّه إنسان، في النهاية، فهو ليس ذلك الضابط الألماني المجنون، الذي أمر جنوده في الدقائق الأخيرة قبل إعلان معاهدة الاستسلام أن يقتحموا الخنادق الفرنسية. يعترض بعض الجنود على أمره، لكنّهم يساقون إلى الإعدام. ينطلق بومر كأنّه دمية يقتل ويطعن إلى أن تخترقه حربة أحد الجنود الفرنسيين، إلّا أنّه يتحامل على ذاته حتى يشهد عودة السلام، ثم تغادره روحه. يبدأ أحد الجنود الشباب الجدد بالتقاط قلادات الجنود الذين ماتوا، فلقد كانوا أرقامًا وسيظلّون، مهما كتب التاريخ عن انتصارات وهزائم الجنرالات.
حصل فيلم: All Quiet on the Western Front  لعام 2022 على الكثير من الجوائز وضمنًا الأوسكار.