الاحتفاء بالقراءة

آراء 2023/09/12
...







 ميادة سفر

في الوقت الذي وصلت فيه جيوش المغول إلى بغداد في أواسط القرن الثالث عشر، كانت العاصمة العباسية منارة للفكر والعلوم وفيها ما يقارب 36 مكتبة، أشهرها المكتبة التي أسسها الخليفة المستنصر، والتي حمل إليها ثمانين ألف كتاب، وبيت الحكمة التي أسسها هارون الرشيد، وضمت مؤلفات عديدة وترجمات عن اليونانية لأرسطو وبطليموس وغيرهما، فضلاً عن كتب الطب والفلك ومئات المخطوطات، التي ستستبيحها قوات المغول وتعيث فيها حرقاً وتخريباً، ويحكى أن مياه نهر دجلة صبغت بالأسود من حبر الكتب التي ألقيت فيه، ويروى أنّ قوات المشاة الجنود والفرسان اتخذت منها جسراً تعبر فوقه.
مع كل هذا التاريخ الطويل والحافل من الاهتمام بالعلوم والمعرفة، لم يكن مستغرباً أن تخصص الحكومة العراقية يوماً للاحتفاء بالقراءة في الثالث من شهر آذار من كل عام، في بلاد تحتفي يومياً بالكتاب عبر تخصيص شارع للكتاب حمل اسم واحد من أعظم الشعراء "المتنبي"، حيث تنتشر المكتبات ويفترش الكتاب الأرصفة، ويلتقي الأدباء والمثقفون والمهووسون بالكتب، ألم يقل عميد الأدب العربي طه حسين في ستينيات القرن الماضي "القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ".
تعود قصة القراءة والكتاب في العراق إلى الزمن الذي اكتشف فيه الورق من قبل الصينين وبقي حكراً عليهم، إلى اليوم الذي تمكنت فيه بغداد من الحصول على سر صناعة الورق من صناع ورق صينيين تم أسرهم بعد معركة "طلاس" عام 751 م، منذ ذلك الوقت ستزدهر صناعة الكتاب في أنحاء الدولة مع عثور العرب على مصادر أخرى لصناعته، وساهموا في تطويره لينتقل في ما بعد إلى أوروبا والعديد من دول العالم. ستتركز صناعة الورق بداية في مدينة سمرقند، حيث أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بالتوسع في انتاجه واستخدامه في المجمعات العلمية ودواوين بغداد، وفي عهد هارون الرشيد تنتقل صناعة الورق إلى بغداد، حيث أنشأ مصانع الورق لتبدأ مرحلة ناصعة للمعرفة، ستنشئ المكتبات وبيوت الحكمة وتنتشر مراكز المعرفة والعلوم. على الرغم من أنّ الأرقام والاحصائيات تشير إلى تراجع كبير في معدلات القراءة في البلاد العربية مقارنة بدول أخرى، إلا أنّ اهتمام الدول والحكومات بهذا المجال المهم من شأنه تحسين الواقع الثقافي والمعرفي، وتشجيع الأجيال التي أخذتها الأجهزة الخلوية ووسائل التواصل الاجتماعي على القراءة وزيادة جرعات المعرفة، فقد أسهمت مسابقة تحدي القراءة التي أطلقتها دولة الإمارات في تشجيع الكثير من الأطفال على القراءة لاسيما بعد التغطية الإعلامية والاحتفاء الكبير الذي يحظى به الفائز بالمسابقة، والدعم المادي والمعنوي الذي يقدم له، فضلاً عن الشهرة الكبيرة التي تغري الكثيرين وتدفعهم للمشاركة، ويبقى الأمر الأكثر إلحاحاً قيام تلك الحكومات بدعم دور النشر والقراء بحيث يتوفر الكتاب للقارئ بأفضل سعر ممكن وبدون أيدي الرقابة ومقصاتها.
الاحتفاء بالقراءة يعني: المعرفة المستدامة، وأجيال قادرة على النهوض بمجتمعاتها، والتحرر من قيود الماضي، ولأن القراءة تنقذنا من العبث على ما قاله ألبير كامو، لا بدّ أن يكون الاحتفاء بالقراءة واجباً على كل الدول وفرضاً على الجميع كشيء مقدس يدخلنا إلى جنة العقل وينقذنا من جحيم التعصب والتخلف، "فمن لا يقرأ - يقول أمبرتو إيكو- يعش حياة واحدة حتى لو اجتاز السبعين عاماً، أما من يقرأ، فيعيش خمسة آلاف عام، أبدية أزلية".