أحمد رجب شلتوت
كانا يسيران صامتين، الحبيبة الحسناء لاحظت شروده، سألته مداعبة:
- من تلك التي شغلتك عنِّي؟
لم يرد إلا بابتسامة باهتة، وهي لم تدعه يركن إلى الصمت:
- تزعم، في بعدك عنِّي، أنَّك لا تفعل شيئا سوى التفكير فيَّ، والآن ونحن معا تشرد مبتعدا عنِّي، حتى عيناك تحدقان فيَّ لكن أشعر أنّهما مصوبتان بعيدا عنِّي فلا ترياني
وجد نفسه مجبرا على الردِّ:
- بالي لا يشغله سواك، وعيناي لا تريان غيرك
- فيمَ شرودك إذن؟
- فيك
- أنا؟
تضحك متعجبة، وهو يواصل كأنّها لم تقاطعه:
- وأنت معي أكون آخر غير الذي أعرف وتعرفين، يهبط عليَّ الوحي
تجد نفسها مضطرة أن تقاطعه:
- الوحي أم الوهم؟
وهو ثانية يواصل الكلام وكأنّها لم تقاطعه:
- جمالك وحبّي لك يرياني الوجود جميلا، أريد أن يشترك كل الخلق معي في رؤية هذا الجمال النادر
- هكذا؟
- أريد أن أرسم لوحة أسميها “الدنيا الجميلة” أجسد فيها ما أستشعره من جمال ونحن معا
- وماذا ترسم فيها؟
- مفردات حياة أتمنى أن نعيشها معا.. واحة تضمنا
- ترسم مكانا تود الهروب إليه، ترسم وهما يجسد عجزك
- أرسم ملامحك الجميلة، عيناك، وهذه الحديقة، وتلك الشجرة بالذات سوف أمنحها مكانا في اللوحة، أتذكرين أول لقاء لنا، جلسنا في ظلها، مازالت تمنحنا سترا، تحجبنا عن أعين الوشاة.. أتذكرين يوم رسمت على جذعها قلبين متعانقين ورفضت أنت أن أكمل الرسم بسهم يخترقهما معا
- أنظر جيدا، لن تجد للقلبين إلا أثرا باهتا، مرت أيام وشهور وليس لنا مكان إلا الحديقة، تعجز عن كلِّ شيء حتى عن تلبية رغبتي بأن ترسمني
يراها تبتعد، يناديها فلا ترد، يلاحقها، يمسك يدها فتنتزعها من كفه غاضبة:
- دعني وحاول أن تفعل شيئا، على الأقل حاول أن ترسم دنياك الجميلة
رأته يقترب من شجرتهما، ينفض ترابا يغطي على القلبين المتعانقين، يشرع فرشاته ويمنحهما لونا أبيض، يقف ويثبت اللوحة البيضاء، يشرع فرشاته ثم يتوقف، يتلفت بحثا عنها، كانت تنظر إليه من خلف شجرة أخرى، لمحها فابتسم، ورسم شجرتين، بينهما وجه الحبيبة، بدا له صغيرا، فرشاته لم تدرك اتساع عيني الحبيبة، اتساع قادر على أن يحتوي العالم كله، توقف قليلا ثم أشرع فرشاته، لم يرسم شيئا، ليس هذا ما يريد، وكانت الحبيبة قد اقتربت، وقفت خلفه تحدق في اللوحة، أنفاسها لفحته، نظر لها فنطقت:
- هل اكتملت لوحتك
- لا أعرف، لكن لا أستطيع أن أضيف لها
- اكتفيت أم عجزت؟
- لا أعرف
- دنياك الجميلة دميمة.
- ليست دميمة لكن شيئا ما ينقصها، شيء لا أدرك كنهه
- هل يمكن أن ترسم كل هذه المساحات الخضراء، وتملأها بالزهور، ولا تجد مكانا لنهر يرويها ويسع شاطئه المحبين، أو على الأقل ارسم كوخا للعاشقين
يحدق في اللوحة ولا ينطق فتواصل:
- هل تعرف ما هو الشيء الوحيد الصادق في لوحتك؟
- وجهك
- ليس مجرد الوجه، صدقت حين رسمتني وحيدة، من دونك، فاتك أن ترسم نفسك، هذا ما ينقص اللوحة، ينقصها أنت
تجهم لملاحظتها، وغمره أسى، أرادت أن تخفف عنه فأشارت إلى شجرتهما:
- أنظر شجرتنا يسكنها غراب أسود، يمكن أن تمنحه عشًّا في اللوحة
- دنيانا لن تعرف الغربان، سوف أملأ الأجواء كلّها بعصافير من كل لون، وسأحفر بين الشجرتين مجرى للنهر
فوجئ بها تضحك، صوت ضحكتها يعلو وهي تبتعد، تشير له قائلة:
- سأنتظرك هناك، عند الضفة الثانية للنهر، وعليك أن تعبر النهر باتجاهي
ابتعدت، فلم تره وهو يرسم النهر، فلما انتهى ناداها للتنزه على شاطئه، لم تغادر جلستها تحت الشجرة وقالت بدلال:
- هيا اخلع ملابسك وانزل إلى النهر، ولتعبره سابحا باتجاهي
قال ضاحكا:
- تعرفين أنّني لا أجيد السباحة، سوف أرسم لك معبرا
- كوبري إسمنتي، أرجوك لا تفعل، كم أكره الإسمنت والحديد والدخان
ترك الفرشاة واندفع ناحيتها، تجري قبل أن يصل، تراوغه وتجري، وهو من خلفها يجري، يتضاحكان ولا تتوقف عن الدوران حول الشجرتين، ويظل يتبعها ويهتف باسمها.
ولما خفت صوته ونأى توجّست وتوقفت، رأته وقد عاد إلى شجرتهما، كان جالسا يلهث، عادت إليه مادة يدها، أمسك بها ونهض، ولما قصدا اللوحة وجدا الغراب ينعق وقد أكمل ما ينقصها، فقد تخفف من فضلاته فوق الشجرة، بعضها طال اللوحة، واحتلَّ مساحات شاغرة بين الزهور والعشب الأخضر.
القاهرة - مصر