حاتم حسين
اذهب لغرفة الإدارة واتني بالعصا. انتابني الخوف من طلبه. بل تردّدت أن أهرب الى البيت.. ويا ليتني صدّقت إحساسي عندما جلبتُ له العصا وسلمتها إيَّاه. كانت سحنته تُوحي بالسخط والغضب. قال المدرس: -افتح يديك وقد صدق إحساسي من أنّي سوف أُضرب وأعاقب مثل أيّ مذنب.
لكنّي لم أفتح يدي!
وقفت صامتا في وجهه أتساءل ما الذي فعلته ليضربني، وأنا في أيامي الأولى من الدراسة المتوسطة، حيث ابتلعت قبل دقائق ضرباً مبرحاً من يديه الغليظتين والخشنتين على ظهري، الذي اِحمرَّ من شدّة الضرب، بل تصوّرت أنّ الموقف اِنتهى الى هذا الحدِّ من الضرب لطالب في أيامه الأولى من الدراسة المتوسطة. كل الذي جنيته وفعلته كان في سوء وعدم معرفتي لفن الرسم (ورسمي السيئ) للواجب الذي كلّفنا به. حادثة جعلتني أهرب نهائيا من المدرسة، وأنا في الأول المتوسط. كرهت أسلوب الوعيد والتهديد والعقوبة. مع أنّي لم أفعل شيئًا كي أدفع الثمن غاليا من مستقبلي. ما زلت أغمض عيني، وأرى صورة المدرّس الطويل القامة الذي أشبهه بقامة قادة الجيوش، وهو يرفع قميصي، ويكشف عن ظهري من الخلف، وأنا أرتعد خوفا، محتضناً الرحلة ليحمرَّ ظهري بضرباته، التي لم أذق طعمها وقسوتها حتى من أهلي، الذين حلموا في تقديمي كنموذج صالح للمجتمع. هذه الحادثة شكّلت لديَّ صدمة، وكرها للمدرسة. صورة منحوتة في ذاكرتي، وأنا أراه يصرخ بجنون).
(افتح ايدك؟!) رفضتُ أن أفتح يدي بعناد أحاسيس الطفولة البريئة من أنّي لم أقترف ذنباً عظيماً. بل راح يضربني بعصبية، وجنون على رأسي، وكتفي وظهري، وأنا أتلقى، وأتحاشى ضرباته، التي ما زالت تُؤرقني إلى الحدِّ الذي يصعب فهمه. مع أنَّه كان مدرسا وفنانا تشكيليّا، تُقام له المعارض والمنتديات الفنيّة. أغمضتُ عيني في تلك اللحظة القاسية عليَّ من الزمن. ولم أعرف أن كلَّ خلايا دمي، قد توهّجت وأمدّه، من الداخل جيش من الخلايا القوية المنشطرة المتوالدة في دمي والمصرّة على العناد بل فشل أمام اِصراري ومقاومته. إلّا أن يستمر بضربي لفشله أن أستجيب له وأفتح يدي. لكنّي لم أفتح يدي! حتّى اندحر، ولم يكن أمامه خيارٌ سوى طردي من الصف. كان بإمكانه أن يعلمني بكلّ هدوء، ويشرح لي ويعلمني بأسلوب يزرع فيَّ الأمل والثقة في نفسي. مثل أيّ طالب يجهل أساليب، وفنون الرسم بشيء من الحبّ لهذا الدرس، الذي نعدّه درسا ترفيهيا، رغم أنّي كنتُ شاطرا في الدروس العلمية الأخرى. وأن يترك في نفسي ذكرى لأستاذ علّمني أبجديات هذا الفن الذي أراه اليوم فنّا رائعا. وكم تمنيت في نفسي أن يعاقب الطلاب الوقحين، الذين يتهكمون ويسخرون منه ويتندرون عليه. الغريب في الأمر أن الأستاذ الذي كان يلقّب بالفنان التشكيلي شاهدني بعد عامٍ من تلك الحادثة، التي جعلتني أترك المدرسة نهائيا، وأنا في الشارع بعد أن قطّب حاجبيه وتذكّرني؟!
وقال: لما تركت المدرسة؟ سخرت في داخلي من سؤاله السخيف الذي قضى على مستقبلي، وأنا أتطلّع في وجهه المنتفخ، وقميصه المزركش الملوّن، باعتباره فنانا تشكيليا يرتدي آخر الصرعات الشبابيَّة. قلت له بتهكم. لم اكترث الردَّ عليه. ولكن كان عليَّ أن أردّ على ذكائه الحاذق من أنّه فنان!
-ألا تعرف لما تركت المدرسة؟! ومشيت مبتعداً عنه هازّا برأسي ولاعناً أستاذاً، ومدرساً على شاكلته.