مساوئ الأنا في الرواية العربية

ثقافة 2023/09/12
...

 موج يوسف

  ظل الاعتقاد الشائع حتى نهاية القرن التاسع عشر بأن المؤلف يتطابق مع الراوي لا سيّما الذي يروي بضمير المتكلم( الأنا)، والأعمال العالمية الأولى التي وقعت في قبضة الحظر الديني والاجتماعي، هي من رمت كاتبها بمرمى المحاكمات والقضاء، كرواية مدام بوفاري لفلوبير ـــــــــ مثال لا على سبيل الحصرــــــــ هي أحدى ضحايا سواء اعتقد رجال عصر المؤلف الذين ظنوا بأن الرؤى هي لفلوبير وليست للراوي أو الشخصية، في حين أنها كانت محمولة ــــــــ الرؤى ــــــــ بواسطة شخصية في الرواية فحكم الكاتب على أفعال شخصياته، وتحديداً(إيما) التي حاولت أن تهرب من الملل والضجر من حياتها البرجوازية إلى عالم القراءة والعلاقات الجنسية فالراوي أبعد نفسه عن الشخصية وأطلق أجنحة أفكارها ولم يتدخل في ما تقوله.
لذلك حُكم على الرؤى بأنها لفلوبير وتعرض للمحاكمة. ويمكن أن نستشفَ من  محاكمته أن ما يقوله الراوي ليس بالضرورة ما يؤمن به المؤلف لأنها مرتبطة بالأنا التي كتبها من خلال راويه.
وبعد انبثاق نظريات علم السرد الحديث التي أعلنت بأن المؤلفَ والراوي ليسا متطابقين، والضمير المتكلّم يحضر في الرواية بوصفه راوياً خارجياً ويمكن تحديده من حضوره التاريخي. فهنا تمّ الفصل بين الكاتب والراوي والشخصيات، وهذه المهمة تبدو صعبة وشاقة وتحتاج إلى براعة روائي وخبرته الكتابية في سلخ ذاته عن أبطاله وراويه، لكنَّ ما يحدث في الرواية العربية هو غياب الوعي في التميز بين هذه الثلاثية ( كاتب، راوي شخصية) فكلها نجدها تصب بدلو الأنا المرتبطة بكاتبها الذي يمارس سلطة صوته وأفكاره على شخصياته، التي وصفها بصفات ووعي مختلف
عنه.
فمن المفترض أن تسير وفق ما وضعه من وصف للشخصية، ويعزل نفسه عن الراوي لكن الكاتب العربي لم يفرق بينهما فصارت كتابته تقترب من السيرة أو السرد التاريخي
 - إن صحت التسمية - فعبد الرحمن منيف في روايته (حين تركنا الجسر) التي تتحدث عن شخصية البطل زكي النداوي الذي ذهب برحلة صيد مع كلبه وصار يتذكر أحداث الجسر وانهزام الجيش ومنعهم من
العبور.
فالسرد يدور بأنا واحدة هي للكاتب نفسه ، فنجد (أنا )منيف هي من تروي خيبة المثقف العربي من النكبة والخذلان فيقول في حواره مع كلبه وردان: « ماذا تقول لو قرأت عليك شعراً؟ إن نظرات وردان ذكية، متوازنة، وبعض الأحيان تحمل احتجاجاً ملحوظاً. قلت لما رأيته ينظر إلي هكذا: لا تغضب، الشعر والدين هما الهزيمة.. ليس الشعر الذي يهزم البشر. البشر هم يهزمون الشعر عندما يتركونه وحده يحارب، لو حاربوا مع الشعر لانتصروا» . فالنص هو ليس صوت البطل ولا رؤياه وأنما للكاتب نفسه، فأناه هي من تحدثت ولم يستطع أن يفصل نفسه عن بطله الجندي المخذول، والذي من المفترض أن ينطلق وفق رؤاه عن أسباب خسارتهم، لا وفق رؤية المثقف، وهذا الأخير يظهر في النص ويوجّه نقده نحو الشعراء الذين تركوا قصائدهم تحارب من دون أن تكون لهم مواقف على أرض الواقع، وللدين نصيبُ أيضاً من الهزيمة، كما يرى الكاتب وتحديداً في حرب 1967 مع إسرائيل، فالأنا التي سيطرت على السرد لم تسمح للروائي بأن يحلل الوقائع بخياله ومن ثم يطلق عنان الوصف لها، لذلك يمكن القول : بأنَّ من مساوئ أنا الكاتب هي توليد الجمل الأخبارية التي لا يحتاجها القارئ ولم تؤدِ وظيفة فنية. كذلك نجد الكاتب سعد محمد رحيم في روايته (مقتل بائع الكتب) يحرّك أناه بين الشخصيتين الأساسيتين هما: المقتول محمود المرزوق بائع الكتب، والباحث عن القاتل الصحافي ماجد البغدادي، فنلحظ صوت الراوي وكلا الشخصيتين يحملان أنا ورؤية واحدة، فيقول الصحافي: « وقد نويت أن أعود بعد غد إلى بغداد بعد أن استنفدت وسائلي في الحصول على معلومات جديدة عن المرزوق، إذ يمكن أن أكمل الكتابة هناك في شقتي. القصة فيها ثغرات كبيرة، وأظنني سأواجه صعوبة في إعطائها نسقاً مثيراً ومقنعاً، الخيال في مثل هذه الحالات يقدم معونة واضحة لكنني لست بصدد كتابة
رواية».
أن النص يوضح كيف أنا الروائي هي من حللت وبحثت في واقعة قتل الصحافي، وهذا الأخير لم يرد في المتن الحكائي سوى شخصية تدفع بالحدث إلى الأمام، فمن المفترض أن تحضر أنا الشخصية ورؤيتها لا رؤية الكاتب، الذي انطلق من منطقه الأدبي وليس الصحفي، ولم يقدم لنا إلا جملاً إخبارية؛ للوصول إلى حلّ الحبكة. ونلحظ هذا الخلل الفني أيضاً في روايات البوكر فالكاتب محمد النعاس في روايته( خبز على طاولة الخال ميلاد) ركز على شخصية ميلاد الخبّاز المستضعف في مجتمعه الليبي، فقام الكاتب بتسطيح كل الشخصيات، ووجه الرؤية إلى شخصية البطل، فالرواية تسير بصوت واحد ووجهة نظر واحدة وهي للكاتب نفسه وليس لشخصيته البطلة فيقول:» صباحَ صفعتُ زينب، توقف الزمن، وتوقف جسدي عن الحركة. لم تنتظر منّي زينب أن أنهي العراك. وقفت شامخة كأي امرأة عرفتها في حياتي، واستعدت للدخول في معركة اليوم. ارتدت ملابسها ووضعت مكياجاً على وجهها.
لم تكن صفعتي قوية،لذا لم تؤثر فيها جسدياً لكن التأثير النفسي كان واضحاً.. وقد غادرت المنزل في غضون دقائق». أنا الكاتب هي من سردت الجمل الأخبارية وليس البطل، فكيف لشخصية وصِفت بأنها ساذجة وتنطلق من رؤية نسوية؟ كما أن النص لم يكن ابن بيئته العربية المشرقية، فهو مقتبس من مشاهد الأفلام العالمية التي تصور حالة الزوجة الغاضبة وهي تهجر بيتها.
فأنا النعاس حوّلت الرواية إلى حكاية وجرّدتها من فنِّيتها، فهذا النص يسير إلى ختام سرده.    إنَّ غياب المعرفة بتقنيات السرد والجهل في الفصل بين أنا الكاتب والراوي هما المأزق الذي لم ينجُ منه إلا من عرف وعرّف الرواية بأنها علمٌ كبيرٌ يحتاج إلى إدراكٍ ووعي وممارسة
مستمرة.