وتتزيّنُ بالزينة الحقّ

ثقافة 2023/09/13
...

أحمد عبد الحسين
التكثيفُ العجيبُ في مواقفِ النفري ومخاطباته يجعل قارئه يمرّ أحياناً على العبارة مأخوذاً بفتنة التعبير وفرادته من دون أنْ يمنحها حقّها من التأمّل والتدبّر اللذين هما لحظة التنفّس الضرورية في هذا الاسترسال النفريّ المترادف سحراً وعذوبة. خاصة أنَّ الكتابة البرقية المكثفة غالباً لا تستهدف الوضوح بل الدقّة، كما في وصيّة بول فاليري: “يا ناثانيل أوصيك بالدقة لا بالوضوح”.

ومن جمل النفريّ التي تمرقُ جميلة وخاطفة كالبرق دون أنْ نمسكها ونجعلها مادةً للتأمّل قوله: “وتتزيّنُ بالزينة الحقّ”. فكيف يمكن للحقّ أنْ يكون وصفاً للزينة؟

الزينة والحقّ كلمتان لم تردا في كتابةٍ إلا بوصفهما متناقضتين متضادتين، فغالباً ما نُظر إلى الحقّ من جهة استغنائه عمّا يتعلق به أو يلحق عليه، كما نُظر إلى الزينة بوصفها عَرضاً يمكن الاستغناء عنه، أو تفصيلاً زائداً وبهرجة مضافة إلى معنى مكتمل. والمضاف إلى الكامل التامّ يجعله أقلّ كمالاً وتماميّة. فالتزيين ـ برغم جنبته الجماليةـ يحمل في طيّاته بذرة إدخال النقص على المعنى.

لكنّ النفريّ لم يتحدث عن حقّ متزيّن أو زينةٍ متحققة، بل عن زينةٍ هي الحقّ وحقٍّ هو الزينة. وعنده ليست الزينة شيئاً مضافاً إلى المعنى، بل هي هو. 

في الفهم الشائع تنطوي عبارة “الزينة الحقّ” على خُلفٍ منطقيّ، هي كقولنا: “الدائرة المربعة” مثلاً، لكنّ راسخ القدم في الدرس العرفانيّ يعرف أنَّ الثابت في كلّ الوجود استبطانُ كلِّ شيء لنقيضه استبطاناً لا فكاك منه، فما من جمال إلا وهو ظاهرٌ لباطنٍ جلاليّ، وما من لطف ظاهرٍ إلا وجوهره قهرٌ باطن. وما الوجود بأسره إلا هذا الباب المذكور في الآي القرآنيّ: “بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ”. وكلّنا موتى وأحياء واقفون على عتبة هذا الباب.

الزينة حقّ أيضاً إذنْ، ومن دونها يكون الحقّ أقلّ حقانية. ويذكرني هذا بحديث للرسول الأكرم عن الخطّ: “جمالُ الخطّ يزيد الحقّ وضوحاً” فوضوح الحقّ حقّ أيضاً. إذ الحق غير الواضح لا يكاد يكون حقاً. وهذه الزينة التي في عبارة النفريّ بل في كل كتابه هي من جنس الحقّ وسنخه.

كلّ شيء يحمل زينته معه وهي داخلة بالصميم في تكوين حقيقته، والحقيقة غير المتزينة غير مقدّر لها أنْ تظهر. أو كما في تعبير النفريّ المشرق: “معرفة لا جهل فيها لا تبدو”. وما لا يبدو هو والمعدوم سواء.

العالم مخلوق بيدين اثنتين، فإثبات ونفي، وجهل ومعرفة، وحق وزينة، ووجود وعدم، والحياة كلّها لعب ولهو، كلاهما قتل للوقت الذي هو كل ما نملك، لكنَّ اللعب هو ما يتضمن قواعد وله آثار، أما اللهو فما لا قاعدة له ولا يفضي إلى أثر يذكر. 

وفي قول الله لإبليس: “ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ” إشارة إلى يدين اثنتين: جمال وجلال، لكنَّ كلّ جمال هو جلال في آخر الأمر، ووجود هو العدم، وزينة هي الحقّ وحقّ هو الزينة.