سياسة الرأي والرأي الآخر

آراء 2023/09/13
...

 رعد أطياف


ما زالت الثقافة النقدية في محيطنا العربي ترتبط ارتباطاً شديداً بكرامتنا الشخصية؛ أنا مُنتَقد إذن أنا مجروح. أما ما نسمعه من عبارة «الرأي والرأي الآخر»، فهي عبارة فضفاضة تتضح معالمها أثناء «الحوار»، فيتحول هذا الأخير إلى سجالات مُنَفّرة وعدوات شخصية. لا مجال لتسليط الضوء على القضايا الحساسة، فأنت بهذه الحالة ستغدو رجيماً ومنبوذاً. بالطبع ثمة هامش ضئيل على المستوى المنهجي وضمن دوائر شديدة التخصص، ومع ذلك ينبغي ألا تتعدى حدود السائد والمُعتاد. وهو أمر «طبيعي» لثقافة ظلت مرتبكة إزاء الحداثة السياسية، وعانت ماعانته من هذا السيل الجارف للأنظمة الديكتاتورية، التي تعاقبت على منطقتنا، فهذه الأخيرة تنظر للنقد كما لو أنه مؤامرة خارجية مُسلّطَة ضدها وتهديد سافر لسلطتها السياسية؛ إما أن تكن معي أو ضدي، ولا مجال سوى للأبيض والأسود. وقد تسربت هذه الثقافة المدمرة، وبحكم التنشئة السياسية طويلة الأمد، إلى قطاعات واسعة من المجتمع. وبالرغم من الفوارق الكبيرة بالتأكيد، إلا أن الوسط الثقافي لم يسلم من هذه الآثار، وظلت ثقافة النقد تمشي على استحياء، خوفاً من التسبب ببعض الجروح النرجسية. حدثني صديق ذات مرة قائلاً: في ميدان العمل الفكري خير لك أن تبقى وحيداً خارج الوسط الثقافي. فالعلاقة مع هذا الوسط مكلفة للغاية وتسقطك في فخ المجاملة والحياء مع هؤلاء الأصدقاء، الذين تكنّ لهم الاحترام والتقدير. ذلك إن الثقافة النقدية في ثقافتنا لم ترَ النور بعد! إذ لا زال معظمنا يربط النقد بكرامته الشخصية ويتلوّى ألمًا فيما لو وُجّهت له سهام النقد. لا أنكر أن المتوفر من هذه «الثقافة النقدية» ضئيل جدًا، قد يتخذ البعض منه تبريرًا وغطاءً «منطقيًا» لشرعنة الخصومات الشخصية والنيل من الآخر، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود المساحات الواسعة التي وفرتها مواقع التواصل الاجتماعي التي تعزز هذا السلوك المشين. ولا أنكر أن النقد في مواقع التواصل يبقى نقدًا تافهًا بالمجمل، ليس لضحالة مضامينه، فربما تكون شديدة العمق، بل لأنه يُكتب عادة لجمهور متهور لا يهتم بالمضامين العلمية قدر اهتمامه بالنيل من شخصية المثقف، باستثناء بعض الكتّاب الذين يتمتعون بجمهور يعي هذه المطالب ولا يسقطها في خانة المواقف الشخصية، لكنّه جمهور قليل على أي حال. وهؤلاء القلّة القليلة كما لو أنهم جزر متباعدة في محيط شاسع يصعب الوصول إليهم وسط هذه الفوضى. لكن لو استثنينا هذا المد الشعبوي الصاعد في مواقع التواصل وتكلمنا من زاوية محددة، واختصرنا القول على أرباب الثقافة، فعلى الأرجح سنخرج بنتيجة مفادها: خير لك أن تبقى خارج الوسط الثقافي للفوز بحرية التفكير! لا أقصد الخوف على الأمن الشخصي فهذا أمر مشروع تماماً للمثقف وغيره بل التماهل فيه يندرج في خانة الجنون. وإنما أعني الصداقات الشخصية في الوسط الثقافي قد تتحول إلى حواجز ثقيلة، وتحول بين المثقف وبين اشتغالاته الفكرية ومنها النقد على وجه الخصوص. وبتعبير آخر: يتحول النقد إلى مديح وثناء حد الإفراط للتخلص من جرح كبرياء الأصدقاء! ومن جهة أخرى كلما اتجهنا إلى النقد الاجتماعي، كنّا إلى الخطر والنبذ الاجتماعي أقرب، فمن منّا مستعداً ليغدو منبوذا ورجيماً؟