رحيل موجع

ثقافة 2023/09/13
...

سامر المشعل 



لم تمضِ إلا ساعات قليلة على نبأ رحيل الشاعر كريم العراقي للتتسع الصدمة برحيل صوت الأرض ياس خضر، وكأنهما على موعد لمشروع مشترك لا يمكننا سماعه!.

(من باركته الريح كيف يموت..) هذا ما قاله كريم العراقي، وهو يلخص رحلة حياته والفنان ياس خضر، فالمبدعون لا يموتون، إنما تبقى اعمالهم تتوهج وتزداد بريقا بعد موت أجسادهم.

صوت ياس وقصائد العراقي علقتا بوجدان المستمع تترجمان زفرات وآهات العشاق وتلتقطان لحظات الفرح والحزن والانكسار والتألق الإنساني.. بأغانٍ عذبة تزيح عن النفس أترابها.

الفنان ياس خضر 1938 الذي بدأ حياته المهنية من محافظة النجف الأشرف، قاطع تذاكر بأحد مستشفياتها، عاد الى ثراها بعد 85 عاما نجما غنائيا، محمولا على أكتاف المحبين والدموع تتللأ بمآقيهم على فراق فنان استثنائي استطاع أن يبحر بصوته الشجي بمشاعر الوجع العراقي. بدأ مشواره منذ ستينيات القرن الماضي بأغاني "الهدل "، "ابو زرقه "، "على شط الفرات".. مع الملحن محمد جواد أموري القريب إلى روحه، وهما متقاربان ذوقيا وجغرافيا، فجاءت أغانيهما غارقة بالحزن المتجذر في نفسيهما، بحكم ذائقتهما الخاضعة لسطوة الحزن الكربلائي. تعامل ياس مع الملحن كمال السيد في نهاية الستينيات في أغنية " المكير " للشاعر زامل سعيد فتاح. شكلت هذه الاغنية نقلة نوعية ليس في مسيرة ياس خضر وانما في مسار اللحنية العراقية.

اما تجربته الأكثر ثراءً وتنوعا، فكانت مع الملحن طالب القره غولي، فهما شكلا ثنائيا إبداعياً بالساحة العراقية والعربية، والذي انتج عشرات الأغاني، الذي جعل من ياس مطربا يجمع بين الغناء الريفي والحديث، بطريقة اداء تعبيري تتسم بالقوة والشجن المكثف، بهوية عراقية يصعب الاقتراب منها، وتمخضت عن أغاني "روحي "، "البنفسج "، "حن وانه حن" للشاعر مظفر النواب، و"اعزاز"، "جذاب"، "تعال لحبك"، "وداعا ياحزن".. وغيرها.

لتتوج مسيرته بتجربة اخرى مع الملحن نامق أديب، الذي منحه فضاءً إبداعيا اخر في فترة الثمانينيات جاءت كامتداد لنجاحاته في عقد السبعينيات بمجموعة من الاغاني منها " تايبين " و" مجروحين" وغيرها.

انفتح ياس خضر على الملحنين والشعراء الشباب، لكنها لم تكن بمستوى عمق تجاربه السابقة. ليشكل ياس خضر تجربة عراقية خالصة، وجدت صداها الكبير بالخليج وسوريا ولبنان والأردن. اما الشاعر الرقيق والعذب كريم العراقي 1955 فقد اتسمت نصوصه بالبساطة والإيقاع الغنائي الرشيق، بعيدا عن التكلف واكتسبت تجربته الشعرية بالثراء والتنوع فقد كتب للأطفال والأوبريت والنص الغنائي والقصيدة.. فاضت موهبته مبكرا ليتعامل مع أغلب نجوم الغناء منذ سبعينيات القرن الماضي إلى رحيله ومنهم: فؤاد سالم وقحطان العطار وسعدون جابر وصلاح عبد الغفور ورضا الخياط، وكاظم الساهر الذي شكل معه ثنائيا ابداعيا، انتج خمسين أغنية منها: " المستبدة "، "عيد وحب"، "مو على بعضك"، "ها حبيبي"، "بغداد".. وغيرها. حتى قال الشاعر نزار قباني عنه " ما يكتبه كريم العراقي أشعر وكأني كتبته". فضلا عن تعامله مع المطربين العرب.

ظل كريم العراقي نجما متجدد الابداع منذ السبعينيات إلى رحيله، ومن اهم الاغاني التي كتبها "عمي يا ابو مركب"، "دار الزمان"، "جنه جنه يا وطنا"، "تهانينا يا أيام"، "خسرتك ياحبيبي"، " يا ام الوفه" وغيرها. وقد اختار الملحن المصري بليغ حمدي أربع نصوصة له ليلحنها لسعدون جابر من بين نصوص لمجموعة من الشعراء العراقيين. سيبقى ياس خضر وكريم العراقي فرسانين للأغنية العراقية اللذين اخترقا جدار النسيان بفيض موهبتهما ليتسلقا ربوة الخلود.